الحكومة السورية مُدانة لكونها سنية

تواجه الحكومة السورية الجديدة هجمات متزايدة ليس بسبب ما تفعله، بل بسبب هويتها: قيادة ذات أغلبية سنيّة تُتَّهم بجرائم على أساس الانتماء لا على أساس الفعل.

تواجه الحكومة السورية الجديدة هجمات متزايدة ليس بسبب ما تفعله، بل بسبب هويتها: قيادة ذات أغلبية سنيّة تُتَّهم بجرائم على أساس الانتماء لا على أساس الفعل.

اختتمت سوريا عام تحريرها الأول باحتفالات عارمة في المدن الخاضعة للحكومة الجديدة، بينما مُنعت الفعاليات في مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية أو قوات الهجري. بدت البلاد منقسمة جغرافياً بين مناطق تحتفل وأخرى تتحفظ أو تصمت.

سقوط النظام شكل نهاية مرحلة تمحور فيها الحكم لعقود حول شخص الأسد وأجهزة الأمن والجيش المسيطر عليها من قبل العلويين. ومع انهيار مؤسسات القمع برزت «الأكثرية السنية» بعد معركة من 11 يوماً وخلفها 14 عاماً من التضحيات، فتشكّلت سرديتان متقابلتان: واحدة ترى في الحكم الجديد تصحيحاً لاختلال تاريخي وإنهاء لاحتكار أقلوي للسلطة، وأخرى – داخل سوريا وخارجها – تقرأ ما جرى كانتقال من «ديكتاتورية أقلية» إلى «هيمنة أكثرية سنية»، بما يستدعي صور التطرّف والحرب الأهلية ويغذي شيطنة الحكم الجديد.

تهمة الخلفية الجهادية

ما إن وصل أحمد الشرع إلى دمشق حتى ساد حديث عن أن خلفيته الجهادية، وخلفية هيئة تحرير الشام، ستكون عائقاً أمام عودة سوريا إلى المجتمع الدولي ورفع العقوبات. غير أن العام الأول أظهر قدرة الحكم الجديد على تجاوز عدداً من هذه الشكوك، إذ أزيلت معظم العقوبات المفروضة – إزالة عقوبات قيصر في الطريق -، وانفتحت البلاد على شبكة أوسع من العلاقات والزيارات والاستثمارات، وقام الرئيس بـ 21 زيارة خارجية على رأسها زيارته للبيت الأبيض. 

بالتوازي، استُخدمت قضية المقاتلين الأجانب لتغذية المخاوف، لكن حضورهم بقي محدوداً والتزم معظمهم بالخط الوطني العام واقتصرت أدوارهم في الغالب على الجوانب العسكرية، بعيداً عن صورة «الجهادي العابر للحدود». 

شيطنة من الداخل

في الداخل، تتغذّى صورة الحكم الجديد على مزيج من المخاوف والمصالح المتضررة، وإرث الدعاية القديمة للأقليات الدينية والمذهبية التي دخلت مرحلة ما بعد النظام مثقلة بسنوات من خطاب رسمي ربط أمنها ببقاء الأسد، ما جعل بعض النخب تسارع إلى قراءة أي خطأ من مؤسسة حكومية كدليل على «نزعة سنية انتقامية»، وتعميم حادث فردي أو تصريح متشنج ليغدو «برهاناً» على أن الحكم الجديد خطر وجودي لا شريكاً سياسياً يمكن تقييده بالقانون.

بالمقابل، تعيد شبكات مصالح من النظام السابق تدوير هذا الخوف عبر خطاب طائفي يقدّمها كحامية للأقليات أو صوت «عقلاني» يحذّر من «مد سني متطرّف»، في محاولة لاستعادة موقع سياسي أو تفاوضي، مستفيدة من أي تعثر أو تأخر في بناء مؤسسات جامعة هم أنفسهم يعطلونه ويؤخرونه.

وتستمر شيطنة الحكم على الرغم من أن كلمة الرئيس كانت «نصرٌ لا ثأر فيه»، وكانت المشاهد الموثقة صباح الثامن من ديسمبر 2024 لعسكريي الأسد وهم يغادرون دمشق دون أن تُسجَّل بحقهم حادثة انتقام واحدة.

انتقائية العرب في النقد

إقليمياً، قُرئت التجربة السورية الجديدة من زاوية هواجس بعض الأنظمة أن يتحوّل نجاح حكم جاء بعد ثورة طويلة، تقوده قيادة «سنية» وإن عَرّفت نفسها كحكم وطني لا مذهبي، إلى نموذج ملهم لمجتمعاتها أو رافعة لمعارضاتها؛ لذلك تميل بعض التغطيات إلى التركيز على الخلفيات الدينية لقادة الحكم بدلاً من سياساتهم، وإلى تضخيم أي توتر مع مكوّن من الأقليات وتقديمه كدليل على «استحالة التعايش مع حكم سني»، مع إهمال الجذور المحلية لهذه الخلافات.

وفي جزء من السياسة والإعلام الغربي، تستمر مقاربة سوريا عبر عدسة الأمن ومكافحة الإرهاب؛ فيُربط الحكم الجديد تلقائياً بخيارات إسلامية متشددة، ويُغلَّب سؤال «مصير الأقليات» على أسئلة العدالة الانتقالية وإعادة بناء المؤسسات والتنمية، فيُختزل المشهد في مفاضلة مبسطة بين «استقرار سلطوي ماضٍ» و«مخاطر حكم تقوده أكثرية سنية»، وتُعامل هوية الحكم كعامل مخاطرة بذاته، لا كتعبير عن تحول سياسي يمكن تقييمه بمعايير السياسة والقانون.

متى يكون النقد مشروعاً؟

الحكم الجديد ليس فوق النقد، وهناك ملاحظات مشروعة موجهة إليه. لكن الشيطنة تبدأ حين تُحوَّل «الهوية السنية» إلى تهمة سياسية جاهزة، وكأن الأغلبية السنية تحمل حتماً مشروعاً إقصائياً أو ثأرياً، قبل أي فحص لسياساتها الفعلية. وتتعمق الشيطنة عندما تُعمم أخطاء أفراد أو مجموعات على «جماعة سنية» مُتَخيَّلة، أو حين يُتجاهل تنوع المجتمع السني نفسه بما فيه من تيارات مختلفة وشرائح تحكمها أيضاً اعتبارات محلية ومعيشية.

استمرار هذه الشيطنة، فقط لأن الحكم الجديد سني في أغلبيته، يحمل ثمناً باهظاً على المستقبل السوري. فهي تعمّق الشروخ بين المكونات، وتُبقي الأقليات في حالة خوف، وتُغذي لدى شرائح سنية شعوراً بالاستهداف، ما يفتح الباب أمام تيارات متشددة تزعم أن «العالم لن يقبل حكماً سنياً في سوريا مهما فعل». 

وسياسياً، تُضعف هذه السردية إمكانية بناء عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة، لأن النقاش يبقى أسير سؤال «من يحكم؟» بدل «كيف يُحكَم؟»، بينما تستخدم بعض الأنظمة الحالة السورية لإسناد مقولة أن «البديل عن الأنظمة السلطوية هو فوضى سنية خطرة».

نعم للمواطنة

الخروج من هذه الحلقة لا يعني الدفاع عن الحكومة أو تبرير أخطاء وقعت بها، بل نقل النقاش إلى أرضية أكثر نضجاً. فالمدخل هو إعادة مركزية مبدأ المواطنة، بحيث يُقيَّم الحكم وفق احترامه حقوق جميع السوريين، لا وفق خلفية من في رأس السلطة، مع قبول المكونات بالواقعية الجديدة بأن نظام الأسد ولّى للأبد.

كما يستدعي الأمر مساءلة سردية بعض «الأقليات» نفسها؛ فهي في جانب كبير منها خوفٌ استباقي غذّته آلة نظام الأسد وحسابات إقليمية واهية، أكثر مما يستند إلى سلوك فعلي للحكم الجديد، والذي لم يُمنَح عملياً فرصة كافية لإثبات أنه معني بكل السوريين لا بأغلبية مذهبية بعينها. 

والمطلوب اليوم خطاب إعلامي يتجاوز ثنائية «حكم سنّي/أقليات»، فيسلط الضوء على التجارب التي كسرت هذا التقسيم، ويواكب مسار إصلاح مؤسسي يقيد أي سلطة من الانزلاق نحو الاستبداد، من دون أن يحكم عليها سلفاً لمجرد هويتها.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *