القتال أو الهروب، كابوس التجنيد الإلزامي
في سورية
تم نشر المادة الأصلية باللغة العربية على موقع: معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط (TIMEP): https://bit.ly/3QgKT5Z
--
تم نشر هذا المقال سابقاً باللغة الإنجليزية في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية ISPI
في سورية المنكوبة بالحرب، استغلَّ نظام بشار الأسد التجنيد الإجباري للسيطرة على المجتمع واستخلاص الموارد المالية. وهذا يزيد من فقر المجتمع بشكل أكبر مع تفضيل الفساد وتركيز الجهود حول سلطة الرئيس.
بعد نيل سورية استقلالها بأكثر من عام، فُرض التجنيد الإجباري لأول مرة في نهاية عام 1947، لاحقاً فرض الظرف الجيوسياسي الجديد الذي صاحب تأسيس إسرائيل المزيد من الحاجة المستمرة لوجود مؤسسات عسكرية قوية، وبالتالي كان فرض التجنيد الإجباري والتمسك به سبيلاً إضافياً للتعامل مع التهديد الناشئ وكذلك زيادة قوة المؤسسة العسكرية.
لعبت المؤسسة العسكرية دوراً محورياً في تشكيل نمط الحكم في البلاد بما فيه النظام القائم اليوم، ويعتبر التجنيد الإجباري/الخدمة الإلزامية أحد أهم القضايا المتعلقة بشكل المؤسسة العسكرية مستقبلاً، خصوصاً بعد انتهاء الصراع الدائر في سورية منذ عام 2011.
يحكم قانون خدمة العلم، الصادر بالمرسوم التشريعي 30 لعام 2007 وتعديلاته كافة الأمور المتعلقة بالخدمة الإلزامية، ويتضمن هذا القانون، الأحكام والقواعد والنظم الخاصة بخدمة العلم الإلزامية والاحتياطية وكذلك الواجبات والحقوق والضمانات والأحكام المالية والعقوبات. خضع القانون منذ إصداره وحتى اليوم إلى ما يقارب من 25 تعديلاً، جاء أغلبها بعد عام 2011، نتيجة الاحتياجات الناشئة عن الأحداث التي شهدتها البلاد منذ ذلك الحين.
تعتبر مدة الخدمة الإلزامية إحدى أهم القضايا التي يحددها القانون، وارتبطت بشكل أساسي بطبيعة الظروف السياسية والعسكرية في سورية والمنطقة، إذ كانت مع بداية التجنيد 18 شهراً ثم في عام 1956 ارتفعت لتصبح 24 شهراً، ثم في عام 1968 أصبحت 30 شهراً واستمرت حتى عام 2005 لتعود 24 شهراً، ثم 21 شهراً في عام 2008 قبل أن تصبح 18 شهراً في شهر آذار من عام 2011.
لطالما استطاع النظام السوري فرض المزيد من الخدمة على العسكريين الإجباريين، كالاحتفاظ العسكري أو الخدمة الاحتياطية، وخصوصاً بعد حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967، وحرب تشرين/ أكتوبر 1973، وكذلك بعد التدخل السوري في لبنان عام 1982، وهو ما تكرر بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، وأصبح من شبه المستحيل الحصول على تسريح من الخدمة، والتي استمرت في بعض الأحيان لـ 7 – 9 سنوات وربما أكثر، وهو ما شكل بحد ذاته سبباً مباشراً للتهرب من الخدمة أو الانشقاق.
هناك موضوع آخر امتلك أهمية قصوى بعد عام 2011 – على الرغم من وجوده قبل ذلك – هو عملية دفع بدل الخدمة الإلزامية، حيث عدل القانون بالمرسوم 31 الصادر بعام 2020 القيم المالية للبدلات النقدية للمقيمين خارج البلاد وفق ما يلي: 7 آلاف دولار لمن بقي مقيماً خارج البلاد لمدة لا تقل عن أربع سنوات؛ 8 آلاف دولار لمن كان مقيماً لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات؛9 آلاف دولار لمن كان مقيماً لمدة لا تقل عن سنتين؛ 10 آلاف دولار لمن كان مقيماً لمدة لا تقل عن سنة، كما سمح هذا التعديل أيضاً لأول مرة بقيام مكلفي الخدمة الاحتياطية ممن هم خارج البلاد لمدة عام على الأقل بدفع 5 آلاف دولار للإعفاء من هذه الخدمة.
لجأ النظام السوري إلى هذا التعديل لحاجته الماسة إلى النقد الأجنبي وزادت قيمة رسوم الإعفاء مع قُصر فترات الإقامة في الخارج. ومن الواضح أن قانون خدمة العلم، يأخذ في الاعتبار بعض الإعفاءات، مثل تأجيل الخدمة إذا كان للمكلف أخ في الخدمة بالفعل، إذا كان هو الولد الوحيد لوالديه، بالإضافة إلى التأجيل الدراسي أو للأغراض الأكاديمية.
إضافة لذلك حدد التعديل السابق أن المكلف الذي تقرر وضعه بخدمة ثابتة (المكلف الذي لديه أوضاع صحية معينة تمنعه من الخدمة الميدانية) يحق له دفع مبلغ 3 آلاف دولار أو ما يعادلها كبدل خدمة، أما من تجاوز سن الخدمة العسكرية المحدد بـ 42 عاماً ولم يؤدها، فقد فرض القانون دفعه لمبلغ 8 آلاف دولار أو ما يعادلها، أو أن المكلف معرض لفرض الحجز التنفيذي على الأموال المنقولة وغير المنقولة له وكذلك إلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال العائدة لزوجاته وأبنائه ريثما يتبين أن هذه الأموال لم تؤول إليهم من المكلف في حال كانت أموال المكلف غير كافية للتسديد”.
يحتوي أيضاً قانون خدمة العلم على ثغرات في بعض مواده، ومهد ذلك لظهور شبكات فساد من أعلى المستويات إلى أدناها، وقد وصل الأمر في النهاية إلى تعديلها بناءً على توجيهات روسية، كما تُركت هذه الشريحة (المجندون الإلزاميون) فريسةً لحاجات قيادة النظام في تغطية النقص البشري الحاصل في الجيش، والتي أبقتهم في الخدمة عدَّة سنوات دون حتى أن يُسمح لمجلس الشعب بالنظر في إمكانية إنهاء خدمتهم العسكرية، إضافة لذلك يفتقر القانون لأُطر المراقبة البرلمانية من قبل مجلس الشعب، ويحتكر رئيس الجمهورية تنفيذ التعديلات الجوهرية على القانون، بينما ينحصر دور مجلس الشعب في تشريع تعديلات بسيطة لا تدخل في جوهر الخدمة الإلزامية.
يُفترض بالخدمة الإلزامية أن تشكل إطاراً جامعاً لمختلف فئات الشعب لزيادة الشعور والانتماء الوطني، على أن تكون ممثلاً اجتماعياً موحداً لمختلف فئات الشعب، إلا أن اختلال التكوين الاجتماعي والتطييف العالي في سلك الضباط والمتطوعين في الجيش انعكس على سلك الخدمة الإلزامية أيضاً، وكان سبباً إضافياً للانقسام المجتمعي والذي بدأ ظاهراً بقوة بعد عام 2011، نتيجة الانشقاقات عن الجيش أو نتيجة العزوف عن الالتحاق بالخدمة.
إضافة لذلك استخدم النظام السوري الخدمة الإلزامية كسلاح متعدد الأوجه للضغط على المجتمع السوري واستنزافه، عبر فرض مجموعة من المسارات أمام أي مكلف للخدمة الإلزامية سواء كان داخل البلاد أو خارجها، حيث يجب على من هم في داخل سورية تأدية الخدمة حكماً إذ لا يتيح القانون دفع بدل داخل البلاد إلا لمن تقرر أن تكون خدمتهم ضمن الخدمة الثابتة، وهو ما فتح باباً من أبواب الفساد المالي والإداري في وزارة الدفاع ولجان الفحص الطبية.
الثابت اليوم أن الجيش السوري يعاني من ندرة الموارد البشرية القادمة من الخدمة الإلزامية ولن يستعيد زخم التجنيد لما قبل عام 2011 في أي وقت قريب خلال السنوات القليلة القادمة. أصبح جزء كبير من الشعب السوري لاجئاً خارج البلاد، بينما يعيش قسم آخر في مناطق خارج سيطرة النظام، ففي حين تفرض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية وذراعها العسكرية قوات سورية الديمقراطية الخدمة الإلزامية في مناطق سيطرتها تحت اسم “الدفاع الذاتي“، إلا أن التجنيد الإجباري لم يُفرض في مناطق سيطرة الجيش الوطني أو مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام بمقابل الانضمام طوعاً لهما، وبالتالي تُنافس جماعات ما دون الدولة النظام السوري على الموارد البشرية المتاحة.
خلقت ندرة الموارد البشرية اللازمة لجيش النظام وطول فترة الخدمة الإلزامية والاحتياطية، عدة أزمات في بعض القطاعات المدنية، كالقطاع الصحي والهندسي، وهو ما دفع عدد كبير من الشباب عموماً وحاملي هذه الشهادات خصوصاً على الهجرة أو البحث عن اللجوء في الخارج، وبذلك شكّلت الخدمة الإلزامية ضرراً مجتمعياً بالغ الأثر وزاحمت المجتمع على الموارد البشرية القليلة أصلاً.
كان ذلك الضرر واضحاً وظهر ذلك جلياً بعد جائحة كورونا، لاحقاً، استدعت تلك الأزمات قيام النظام في النصف الثاني من عام 2022 بمحاولات لتخفيف الضرر عبر مجموعة من القرارات أو التشريعات التي أصدرها بشار الأسد بصفته القائد العام للجيش والقوات المسلحة، والتي أنهت الاحتفاظ بالأطباء وسرحتهم من الخدمة الإلزامية، إضافة لإنهاء الاحتفاظ والاستدعاء للضباط والطلاب الضباط الاحتياطيين وتسريحهم، وكذلك بقبول عدد من طلاب وخريجي الكليات الطبية والصحية كملتزمين بالخدمة لدى الجهات العامة المعنية بالقطاع الصحي لمدة 10 سنوات واعتبار هذه المدة بديلاً عن خدمة الإلزامية.
على صعيد آخر، يواجه المجندون ممن هم بالخدمة الإلزامية أو الاحتياطية تحدياتٍ جمّة، على رأسها طول مدة الخدمة (ممن لم يشملهم القرارات السابقة أو قبل صدورها)، وكذلك الظروف السيئة التي يؤدون بها الخدمة، حيث يعاني المجندون من قلة الإطعام بشكل دائم، إضافة لقلة المبالغ المالية التي يتقاضونها شهرياً، والتي لا تتجاوز 5 دولار في أحسن الأحوال، وبالتالي قام عدد كبير من المجندين وتحت حماية سلك الضباط والمتطوعين بتنفيذ أعمال خارج إطار القانون فيما يعرف بعمليات “التعفيش”، والحصول على الإتاوات أثناء خدمتهم على الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال المدن والبلدات وعلى الطرق الرئيسية.
بالمقابل، يملك بعض المجندين خياراً إضافياً ناجماً عن جشع وفساد سلك الضباط، حيث يقوم المجند بدفع مبالغ مالية بمقابل أن يؤدي خدمته من المنزل، تدعى هذه العملية “التفييش”، وهي ليست ظاهرة ناشئة بعد عام 2011، بل هي أقدم من ذلك بكثير.
في سورية، يرتبط الإطار القانوني والاجتماعي ارتباطاً وثيقاً ويتأثر كلٌ منهما بالآخر، حيث يُستخدم قانون الخدمة الإلزامية وبقية القوانين للضغط على الحوامل المجتمعية، من أجل تحصيل موارد مالية إضافية بالقطع الأجنبي، أما بالنسبة للسوريين ممن هم خارج البلاد أو يقطنون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، ما تزال الخدمة الإلزامية تُشكل كابوساً لهم.
يطوع النظام الخدمة الإلزامية في خدمة مآربه التي يريدها كأداة عسكرية وأداة تطويع للمجتمع، وهو ما يفسر انزياح العلاقات المدنية – العسكرية في سورية لصالح العسكر. في الواقع، يركز رئيس الجمهورية/القائد العام سُلطاته في القطاع الدفاعي ككل وليس فقط في ملف الخدمة الإلزامية، باعتبار أن هذا القطاع يدخل ضمن النطاق السيادي لرئيس الجمهورية الذي خصّ نفسه بعدد كبير من الصلاحيات أسوة ببقية القطاعات في الدولة.