مخاطر اندلاع حرب «تموز» جديدة
على الملف السوري
الأخطار المحتملة لحرب جديدة في لبنان في حال وقوعها وانعكاس ذلك على الوضع في سورية من خلال نزوح مئات الآلاف من البيئة الحاضنة لحزب الله إلى مناطق في سوريا، ووضع اللاجئين السوريين في لبنان، واستغلال نظام الأسد للوضع الجديد لابتزاز المجتمع الدولي ومنظماته
تم نشر المادة الأصلية على موقع: القدس العربي: https://bit.ly/3y5apVa
تعود الذكرى الثامنة عشرة لحرب تموز/يوليو 2006 للأذهان ولكن بطريقة مختلفة عن السنوات السابقة، فالمنطقة مُشتعلة أساساً منذ أكثر من عقد بعد موجات الربيع العربي، وأعادت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 الوضع للاشتعال مجدداً على مستوى إقليمي في الشرق الأوسط، وما تلاه من أحداث وتطورات بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة، بالإضافة لدخول «حزب الله » بشكل خجول – على خط المواجهة مع إسرائيل، وبغض النظر عن فعالية المواجهة ومدى عمقها، إلا أن إسرائيل تهدد بشكل مباشر بشن عملية عسكرية في جنوب لبنان لإبعاد الحزب إلى حدود نهر الليطاني وهو الهدف العسكري الذي حاولت إسرائيل الوصول إليه في تموز/يوليو 2006.
لا تتشابه أوضاع المنطقة مع ما كانت عليه سابقاً، فلبنان يعاني من أزمة سياسية ومالية خانقة ومعقدة، ناهيك عن عدم وجود استقرار في المنطقة عموماً على خلفية ما جرى في سوريا منذ عام 2011 وما تلاه من أحداث، وحتى الوجود الإيراني في سوريا يبدو أنه لن يستطيع تقديم الكثير في أي حرب مقبلة، وسبق أن تم اختباره كثيراً من خلال الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمواقعه. من المؤكد أن إسرائيل لن تتوانى عن استخدام آلتها الحربية لتدمير البنية التحتية في لبنان وبالأخص في مناطق سيطرة الحزب أسوة ما قامت به في غزة وفي حروبها السابقة، وهو ما سينعكس على البيئة الحاضنة لحزب الله بشكل مباشر وستكون له تبعات أخرى في الساحة السورية.
سيناقش هذا المقال، الأخطار المحتملة للحرب في حال وقوعها وانعكاس ذلك على الوضع في سورية من خلال نزوح مئات الآلاف من البيئة الحاضنة لحزب الله إلى مناطق في سوريا، ووضع اللاجئين السوريين في لبنان، واستغلال نظام الأسد للوضع الجديد لابتزاز المجتمع الدولي ومنظماته.
نزح إلى سوريا في حرب تموز/يوليو 2006 أكثر من 200 ألف شخص توزّعوا، بين دمشق وريفها، وريف حمص واللاذقية وحلب،
بالإضافة لآلاف آخرين دخلوا سوريا دون أي عملية تسجيل على الحدود سواء مع أوراق ثبوتية أو من دونها، كما فتح السوريون منازلهم وبيوتهم للنازحين اللبنانيين بالإضافة لتقديم دعم غير محدود لهم، بالإضافة لتسهيلات جمّة قدمتها سوريا على مختلف المستويات من أعلاها إلى أدناها، حتى انتهاء الحرب وعودة النازحين اللبنانيين إلى بلدهم.
يكمن الخطر الحقيقي اليوم في حال اندلاع الحرب، بنزوح مئات آلاف اللبنانيين من البيئة الحاضنة للحزب إلى مناطق سيطرة النظام والمناطق التي تملك إيران وحزب الله نفوذاً واسعاً فيها، صحيح أن هناك آلاف المنازل المدمرة بفعل النظام وإيران والحزب، إلا أن هناك مناطق أخرى تم تهجير السوريين منها ويمكن العيش فيها، ومع قلة الخدمات والبنية التحتية الضعيفة أصلاً، إلا أنها تبقى أفضل من العيش تحت القصف الإسرائيلي المدمر، حيث توحي الحرب في غزة أن إسرائيل ستدمر أضعاف ما دمرته 2006، خصوصاً في الضاحية الجنوبية في بيروت والتي تعد معقلاً للحزب بعدد سكان يتجاوز المليون نسمة.
تعتبر مناطق القلمون الغربي وبالأخص الزبداني ومضايا بالإضافة لريف حمص الغربي وكذلك مناطق ريف حلب الجنوبي ومدينة حلب ودير الزور المناطق الأكثر عرضة لنزوح شيعة لبنان إليها، كون حزب الله يملك سيطرة أو سطوة في هذه المناطق على خلفية مشاركته في الحرب في سوريا، ومع طول أمد الحرب وكمية التدمير الواسعة في مناطقهم الأصلية سيبحث هؤلاء عن مقومات الاستمرار والعيش في المناطق التي نزحوا إليها خصوصاً أن الراتب المدفوع للمقاتل من الحزب يمكن له أن يُعيل عائلته في سوريا أكثر بكثير مما يُعيلها في لبنان، بالإضافة لتكثيف المنظمات الإنسانية المدعومة من إيران وحزب الله أنشطتها داخل سوريا، بالتزامن مع أي تسهيلات مقدمة من نظام الأسد لهم والتي لا يشترط أن تكون تسهيلات مكلفة مادياً بقدر ما تكون تسهيلات قانونية ولوجستية باستطاعته تقديمها بما يخدم مصالحه.
لا شكّ أن نتائج الحرب ستكون كارثية على لبنان، فالوضع المالي لإيران وحزب الله ليس جيداً بما فيه الكفاية للإسهام بإعادة إعمار سريعة للمناطق المدمرة، خصوصاً أن لا أموال خليجية آتية للإعمار بشكل مشابه لما حدث بعد 2006، علماً أن تدمير حزب الله وتشكيل ضغط على إيران مصلحة سعودية ستقدمها إسرائيل كعربون “محبة” في سبيل التطبيع معها، وهذا يعني أن مُكوث النازحين اللبنانيين في سوريا سيكون طويلاً ومتناسباً مع جهود الإعمار في لبنان، ولكن الأكيد أيضاً أن نتائج الحرب ستكون غير سارة للبيئة السورية المعارضة من هذه الناحية، وذلك بعيداً عن الموقف المضاد من حزب الله أساساً، وحتى البيئة الموالية للنظام قد تشعر بالتهديد نوعاً ما، سواء نتيجة المزاحمة على الخدمات الأساسية أو حتى أبعد من ذلك على المستوى العقدي حفاظاً على الكينونة العلوية في سوريا.
يتبع نظام الأسد خطاً واضحاً في محاولات السيطرة على أملاك السوريين الذين قتلهم أو هجّرهم، وسبق له أن شرّع عدة نصوص قانونية أو إجرائية تُسهم في نزع الملكيات وإن لم يكن بشكل سريع، ولكنها تشكل خطراً مستمراً ومستداماً على مستقبل عودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم الأصلية، ومع وجود بديل شيعي موال عوضاً عن السُنة المعارضين، ولا يُستبعد أن يقوم النظام بتسريع عمليات نزع الملكية والاستيلاء على ممتلكات المهجرين في سبيل تحويلها لأملاك دولة ثم منحها لموالي الحزب بعد منحهم الجنسية السورية، ضمن إطار المجتمع المتجانس الذي سبق وأن تحدث عنه الأسد.
يعيش في لبنان أكثر من 800 ألف لاجئ سوري مسجّلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بينما تُقدّر الحكومة اللبنانية عددهم بأكثر من ذلك بكثير، وأقرت الحكومات المتعاقبة السنوات الأخيرة خططاً متواصلة لإعادتهم إلى سوريا، حيث شهدت الأشهر الأخيرة زخماً كبيراً في سبيل إعادتهم من خلال التضييق المباشر عليهم وإعادة بعضهم قسراً، حيث فقد بعضهم حياته في معتقلات النظام.
وفي حال توسع رقعة الحرب، سيعاني اللاجئون السوريون بشكل أكبر نتيجة توسع دائرة الأشخاص ممن هم بحاجة للمساعدة وهو ما سيشكل ضغطاً على المنظمات الدولية والإنسانية العاملة في لبنان، وسيكون أمامهم عدة سيناريوهات مريرة، سواء المخاطرة والعودة إلى سوريا وهذا ينطبق بشكل أكبر على اللاجئين ممن لا يملكون توجهاً سياسياً معيناً وإنما كان نزوحهم نتيجة العمليات العسكرية والخوف من عمليات الانتقام، أما المعارضون والمطلوبون أمنياً قد يحاولون الهروب عبر البحر إلى أوروبا، وهو ما يشكل خطراً مباشراً على حياتهم كما حدث في عمليات تهريب سابقة، وآخرون سيفضلون البقاء في لبنان على الرغم من كافة الأوضاع السيئة المرافقة للحرب، ولا يستبعد أن يقوم حزب الله بتجنيد بعضهم وبالأخص الموالين لنظام الأسد.
يضاف إلى ذلك، قد تجبر الحرب بعض اللاجئين ممن لا يستطيع العودة لسوريا أو الهرب عبر البحر على النزوح مرة أخرى داخل لبنان بحثاً عن مناطق أكثر أمناً، مما يزيد الضغط على المجتمعات اللبنانية التي تعاني من نقص الموارد وتردي الخدمات. ومع تضرر البنية التحتية نتيجة الحرب سيزداد الضغط بشكل أكبر على تلك المجتمعات، مما يشكل تهديداً على المستوى المجتمعي ويفتح أبواباً جديدة للصراع والعنصرية والكراهية نتيجة المنافسة على المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية.
على الرغم من إعلان الاتحاد الأوروبي عن تقديم حزمة مساعدات للدولة اللبنانية بقيمة مليار يورو، كان الهدف الأساسي منها هو الحد من الهجرة غير الشرعية للاجئين السوريين إلى قبرص، التي وصل إليها منذ بداية 2024 ما يقارب 3،500 شخص على متن قوارب الهجرة، وفي حال اندلاع الحرب ستتضاعف هذه الأعداد بشكل مخيف، وسيكون المجتمع الدولي أمام أزمة كبرى إضافية بالتوازي مع ما يحدث في غزة وسابقاً في سوريا.
تشكل أي أزمة إقليمية فرصة لنظام الأسد من أجل الاستفادة منها، وسبق لعدة تقارير تحدثت عن وجود طلبات له بعدم التدخل فيما يحدث في غزة على أن تتم مكافأته بالمقابل، وسيحاول النظام جاهداً ضبط الميليشيات المتفلتة في المنطقة الجنوبية قدر الإمكان، وذلك في سبيل تحقيق المزيد من المكاسب ولن يفوت أي فرصة تمنحه موقعاً أفضل للتفاوض مع المجتمع الدولي والمنظمات الأممية والإنسانية الأخرى، في سبيل طلب المزيد من الدعم الإنساني والمادي وتوجيه المزيد من الأموال لمشاريع التعافي المبكر، بالإضافة لذلك الضغط أكثر على الدول الغربية وخصوصاً دول الاتحاد الأوروبي لرفع العقوبات أو على الأقل تخفيفها إلى أقل حد ممكن، والاستفادة من الاستثناءات الممنوحة له من قبل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة على خلفية زلزال شباط/فبراير 2023.
تكمن كلمة السر بدعم مشاريع التعافي المبكر بالتزامن مع طرح مبادرة أممية لإحداث صندوق للتعافي المبكر في سوريا، والتي يمكن أن تشكل جهوداً لإعادة الإعمار بطريقة مقنعة تحت ذريعة الجهود الإنسانية لتخفيف آثار الحرب سواء الناجمة عما حدث في سوريا بعد 2011 أو الناجمة عما قد يحدث في لبنان، مما يشكل خرقاً للعقوبات الغربية ويشرع باباً عريضاً للدعم، والذي قد لا يتوجه لدعم المحتاجين فعلاً بقدر ما يتم توجيهه والاستفادة منه من قبل نظام الأسد ورجالات حكمه.
ستخلق الحرب مساحة إضافية لزيادة انخراط نظام الأسد في المجتمع الدولي باعتباره أحد أهم اللاعبين في هذا الملف سابقاً، وبالتالي احتمالية عودته كلاعب من جديد، ولكن بإمكانيات أقل مما كان عليه سابقاً، بالإضافة لتعزيز مسار التطبيع العربي معه، وربما تسريع عملية التطبيع التركي معه، نظراً للموقف التركي المعادي حالياً لإسرائيل في المنطقة، كما سيؤدي إلى فتح مسارات إضافية للتطبيع الدولي وبالأخص الأوروبي، للوصول لاحقاً إلى كسر سلسلة “لا” (للتطبيع – لرفع العقوبات – لإعادة الإعمار)، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على مستقبل العملية السياسية وفق القرار الأممي 2254، علماً أن مستقبلها غير مبشر حتى من دون وجود الحرب أو انعكاساتها.
يمني السوريون ممن ساهم حزب الله في تهجيرهم أنفسهم برؤية الحزب ومقاتليه يقتلون ويعانون، بغض النظر عن موقفهم من طرفي النزاع، وإن الفائدة المتأتية من حرب إسرائيلية على حزب الله لن تنعكس بشكل كبير على الواقع العسكري بين النظام والمعارضة، ولن تغير ميزان القوى على الأرض حتى ولو قام حزب الله بسحب بعض مقاتليه من سوريا فهو ببساطة لن يتخلى عن المكاسب العسكرية والسياسية التي حصل عليها بعد تدخله في سوريا، هذا فضلاً عن تجميد الملف السوري عموماً والعلميات العسكرية خصوصاً بعد اتفاق وقف إطلاق النار الروسي – التركي القائم منذ 2020، وما تبعه أخيراً بوجود مسار التطبيع التركي مع نظام الأسد. وهذه الحرب بالرغم من بعض إيجابياتها إلا أنها قد تحمل معها عدة أضرار نتيجة التغيير الديموغرافي المحتمل ووضع اللاجئين السوريين ومنح نظام الأسد ورقة مفاوضات مع المجتمع الدولي.
إن أخطر تأثير للحرب على الملف السوري هو التغيير الديمغرافي والذي لا تملك المعارضة أي أدوات فعّالة للتأثير فيه، وهذا ينطبق أيضاً على ملف اللاجئين السوريين في لبنان، أما فيما يتعلق بالمجتمع الدولي والمنظمات ما زالت اللوبيات المحسوبة على المعارضة تملك مساحة مقبولة نوعاً ما للتأثير من خلال العقوبات الغربية، ولكن حتى هذه الأخيرة يمكن كسرها من بوابة المساعدات الإنسانية أو من خلال بعض القصور في آليات العقوبات ذاتها.
لا تتوقف المخاطر عند تلك الجوانب خصوصاً في حال توسع رقعة الحرب لتشمل الجبهة السورية، نتيجة دفع إيران لميليشياتها لفتح جبهة الجولان وعدم قدرة النظام على ضبط تلك الميليشيات، إلا أن احتمال حدوث ذلك يبقى ضعيفاً نتيجة الموقف الروسي الذي يحاول ضمان استقرار نظام الأسد واستثمار نجاحه العسكري سياسياً، وهو ما دفعه أساساً لنشر نقاط مراقبة عسكرية قريباً من الحدود في الجنوب.
يبقى احتمال نشوب الحرب قائماً وبالتالي الأخطار المتأتية عنها، طالما لم يتم التوصل لاتفاق يُعيد الأوضاع على الساحة اللبنانية إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، أو الوصول لاتفاق جديد مطور عن القرار الأممي 1701، حيث تملك إسرائيل الضوء الأخضر من قبل الولايات المتحدة وأغلب دول الاتحاد الأوروبي لتنفيذ أي عملية عسكرية من شأنها ضمان “أمنها الإقليمي”، ولكن هذا الضوء قد يتحول لأزمات إنسانية جديدة في المنطقة، وبالتأكيد لن تدفع ثمنها المجتمعات المحلية فحسب بل المجتمعات والدول الغربية أيضاً والتي ما زالت على الرغم مما يحدث في الشرق الأوسط منشغلة أيضاً بما يحدث في قلب أوروبا منذ سنوات.