ديكتاتور سوريا "القانوني"
يرتكز بشار الأسد في توطيد ديكتاتوريته على عدة قطاعات رئيسة هي: العسكرية والمدنية والأمنية. ويعد رئيس الجمهورية غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى غير المحددة في الدستور".
تم نشر المادة الأصلية على موقع: منتدى الشرق للدراسات الاستراتيجية : https://bit.ly/32hS1sv
أدَّت الأحداث المستمرة في سوريا منذ عام 2011 إلى خلق حالة من التشظي في القطاع الدفاعي وانهيار حدود الدولة، رافق ذلك نشوء جماعات راديكالية وميليشيات طائفية عابرة للحدود، بالإضافة إلى انقسام المجتمع بالتوازي مع وضع إنساني متردي، وتهجير أكثر من 10 ملايين إنسان داخليًّا وخارجيًّا نتيجة عمليات النظام العسكرية، وقد قاد ذلك في نهاية الأمر إلى ضياع السيادة الوطنية تحت الضغوط الخارجية والتنازلات التي تمَّ تقديمها من قِبَل قيادة النظام لكلٍّ من روسيا وإيران في صالح بقائها في سدَّة الحكم.
على الرغم من الأحداث الجسام التي مرت بها سوريا، والتي كان القطاع الدفاعي فيها هو الأكثر نشاطًا وإن اختلفت فعاليته، فإن المؤسسات المدنية قد بقيت ضمن حدود تدخلاتها الدنيا كما هو الحال قبل عام 2011، في مقابل صلاحيات كبرى ممنوحة دستوريًّا لرئيس الجمهورية، حيث فشلت هذه المؤسسات في الحفاظ على سوريا “البلد” خلف “القيادة الحكيمة” كما تدَّعي، في مقابل نجاحها في دعم نظام الحكم القائم.
مع العلم أن بشار الأسد لديه -أسوةً بأبيه من قبله- صلاحيات دستورية وقانونية واسعة في مختلف قطاعات الدولة (المدنية والعسكرية)، وقد أسهمت هذه الصلاحيات في تمكُّنه من التحكُّم بالدولة كيف شاء، ووطَّدت في الوقت ذاته ديكتاتورية النظام القائمة أساسًا على الرعب والخوف.
لن نتحدَّث هنا عن جرائم النظام في حق الشعب السوري، فهي معروفة للجميع، بل سنسلِّط الضوء قليلًا على بعض الأدوات الدستورية والقانونية المتعلِّقة بالقطاع الدفاعي التي يستخدمها نظام الأسد في توطيد ديكتاتوريته.
في عام 2012، تمَّ إقرار دستور جديد وُضِعت مواده على أساس الدستور السابق 1974، وذلك ضمن حزمة “إصلاحات” مفترضة كان من شأنها تخفيف حالة الاحتقان الشعبي، إلا أن الدستور الذي جاء في ست عشرة صفحة وبمواد مقتضبة، لم يتأخر فحسب، بل لم يلبِّ مطالب الشعب السوري التي وصلت إلى حدِّ المطالبة بإسقاط النظام ورموزه، فقد تطوَّرت الأمور مع الوقت إلى مواجهة مسلحة بين قوات النظام والشعب السوري، وذلك بالتزامن مع حالات انشقاق في صفوف الجيش والشرطة.
لقد منح دستور 2012 رئيسَ الجمهورية صلاحياتٍ واسعة في السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) قوَّضت الطموح إلى الوصول لدولة مؤسسات، خاصةً أن الدستور لم يذهب عميقًا في تفصيل مواده، مما سمح بإفساح المجال أمام مشرعي “النظام” لتفسير تلك المواد بالطريقة التي تناسب احتياجاتهم ورغباتهم، وأسندت أهم قطاعات الدولة إلى قوانين كان يتمُّ استصدارها بمراسيم تشريعية من رئيس الجمهورية بناءً على صلاحياته التشريعية.
وقد نصَّ الدستور على أن رئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، كما منحه سلطة إعلان الحرب والتعبئة العامة وعقد الصلح بعد موافقة مجلس الشعب، أما في حالة الطوارئ فقد منحه سلطة إعلانها أو إلغائها عبر مرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسته، كما منحه حقَّ تعيين الموظفين المدنيين والعسكريين وإنهاء خدماتهم.
يضاف إلى ذلك عدد كبير من المواد الدستورية الأخرى التي تمنح الأسد صلاحياتٍ مطلقة تمكِّنه من إدارة الدولة بالشكل الذي يريده.
وهو القانون الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 وتعديلاته. يُنظم القانون المسائل المتعلِّقة بخدمة العسكريين في الجيش من الضباط وضباط الصف والأفراد المتطوعين، وكذلك شروط الترقية والرواتب والإعارة…إلخ، كما يحدِّد الهيكلية العامة للجيش والقوات المسلحة وتكوينها، ويحدِّد مهام مجلس الدفاع العسكري الذي يرأسه بشار الأسد، التي تتمثَّل في كلٍّ من: العقيدة القتالية، وحجم الجيش وتنظيمه وتمركزه وتسليحه وتجهيزه وتدريبه، ومشاريع القوانين والأنظمة المتعلِّقة بالقوات المسلحة، ودراسة القضايا المهمَّة المتعلِّقة بالجيش والقوات المسلحة، وهذه المهام التي يقوم بها مجلس الدفاع العسكري تلعب دورًا أساسيًّا في تكوين ماهية الجيش وأساس وجوده وفعاليته وهدفه، وبقيت حكرًا على العسكريين فقط دون أن يكون هناك أيُّ دور أو تمثيل مدني.
وقد منح القانون أيضًا للقائد العام سلطةَ إنشاء أو إلغاء أو تنظيم أو تعديل أجهزة القيادة العامة وتحديد سلطاتها واختصاصاتها وأملاكها، وذلك دون الرجوع لأحد، سواء من القيادة العامة أو حتى من خارجها، كما للقائد العام الحق في تعيين الوظائف الكبرى في الجيش، كنواب القائد العام ورئيس هيئة أركان الجيش والقوات المسلحة، بناءً عن مرسوم صادر عنه.
بشكل عام، لقد عزَّز هذا القانون السلطةَ العسكرية المطلقة داخل المؤسسة العسكرية بعيدًا عن أيِّ تدخل من قِبَل المؤسسات المدنية في كيفية إدارة القطاع الدفاعي أو تشكيله في سوريا.
وهو القانون الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 30 لعام 2007 وتعديلاته، ويتضمَّن هذا القانون الأحكام والقواعد والنُّظم الخاصة بخدمة العلم الإلزامية والاحتياطية والواجبات والحقوق في الجيش، وخصَّ القائد العام نفسه بعدد من الصلاحيات، مع تفويض بعضها للقيادة العامة، وأجاز القانون للقائد العام بمرسوم يصدر عنه إعارة المجندين (المدنيين أصلًا) إلى إحدى الجهات الحكومية العربية والأجنبية، دون العودة إلى أحد، وغيرها الكثير من المواد التي تسمح له بالتحكُّم في كل شيء.
على صعيد آخر، عانى القانون في بعض مواده من ثغراتٍ فتحت الباب أمام شبكات فساد من أعلى المستويات إلى أدناها، وقد وصل الأمر في النهاية إلى تعديلها بناءً على توجيهات روسية، كما تُركت هذه الشريحة (المجندون الإلزاميون) فريسةً لحاجات قيادة النظام في تغطية النقص البشري الحاصل في الجيش، والتي أبقتهم في الخدمة عدَّة سنوات دون حتى أن يُسمح لمجلس الشعب بالنظر في إمكانية إنهاء خدمتهم العسكرية، مع العلم أن الخدمة الإلزامية يُفترض أن تكون مدَّتُها 18 شهرًا بعد أن كانت 24 شهرًا، بناءً على المرسوم التشريعي رقم 35 بتاريخ 19 آذار/ مارس 2011 الذي حاول به بشار الأسد استمالة المُكلَّفين بالخدمة العسكرية بعد بدء الأحداث في سوريا بعدَّة أيام فقط.
وبشكل عام، يلاحظ في قانون خدمة العلم غياب أُطر المراقبة البرلمانية من قِبَل مجلس الشعب على سير وتنظيم عملية خدمة العلم، واقتصار عمل لجنة الأمن الوطني في مجلس الشعب على إجراء لقاءات ومناقشة أمور بعيدة عن جوهر عملها الذي يُفترض بها أن تقوم به.
يملك مجلس الشعب -بحسب نظامه الداخلي– حقَّ التصديق على مشروعات المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي أبرمها أو التي عقدها مجلس الوزراء والتي تتعلَّق بسلامة الدولة، وهي معاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التي تتعلَّق بحقوق السيادة (المادة 163)، وللمجلس الموافقة عليها أو رفضها (المادة 164).
للوهلة الأولى، يبدو فعلًا أن مجلس الشعب ومجلس الوزراء يملكان صلاحياتٍ جيدة تمكِّنهما من إدارة أهم الخطوات بما يتعلَّق بالقطاع الدفاعي، إلا أن الشياطين تكْمُن في التفاصيل، خاصةً أن كافة قوانين القطاع الدفاعي قد صدرت بمراسيم تشريعية ولم تصدر عن مجلس الشعب أساسًا، حيث منحت تلك القوانين صلاحياتٍ مطلقة للقائد العام، وضيَّقت المجال أمام علاقات مدنية عسكرية متوازنة.
تنسحب صلاحيات الرئيس/ القائد العام على بقية القوانين المتعلِّقة بالقطاع الدفاعي في سوريا، وقد سمحت تلك الصلاحيات الممنوحة له بالتحكُّم في القطاع الدفاعي بالشكل الذي يريده هو لا بالشكل الذي يضمن مصلحة البلاد العليا، ناهيك عن عدم السماح لمجلس الشعب بمناقشة قضايا “أساسية” تتعلَّق بالجيش بشكل خاص وبالقطاع الدفاعي بشكل عام، واقتصرت بعض التعديلات التي قادها مجلس الشعب على تصحيح رتوش في تلك القوانين، أو العمل على مشاريع قوانين من شأنها تعزيز السلطة الحاكمة، والإيهام بأن هذه القوانين قد صدرت فعلًا عن “ممثلي الشعب”.
يرتكز بشار الأسد في ديكتاتوريته على عدَّة قطاعات رئيسة هي: عسكرية يتحكَّم بها وموالية له في العصبية الطائفية، ومدنية تعتمد على حزب البعث ومجردة من الصلاحيات، وأمنية قوية تضبط كافة القطاعات الأخرى وتدير عملها. وليس هذا الارتكاز حديث العهد، بل يعود إلى سبعينيات القرن الماضي بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة في عام 1970.
بالرغم مما سبق، يُعَدُّ رئيس الجمهورية -بشار الأسد- بحسب ما نصَّت عليه المادة 117 من الدستور: غيرَ مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى، وتُوجَّه له التهمة عبر مجلس الشعب الذي يسيطر عليه بشكل مطلق، مع العلم أن الخيانة العظمى لم يتم تحديد ما هي، لا في الدستور ولا في أيِّ قانون آخر.