النظام السوري: رسائل السياسة المحلية إلى المجتمع الدولي
تم نشر المادة الأصلية على موقع: معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط (TIMEP): https://bit.ly/3SjGexV
يقوم النظام السوري منذ منتصف عام 2021 بتنفيذ سياسات جديدة عبر مجموعة إجراءات مختلفة في عدد من المجالات الحيوية في الدولة، وتلاحظ تلك الإجراءات بشكل وثيق في المجال التشريعي والقانوني بالإضافة للمجال العسكري والأمني الذي كان نشطاً منذ عام 2011.
شكّل عام 2021 نقطة انطلاق مناسبة للنظام ليقوم بتنفيذ سياسته خصوصاً في الفترة التي تلت الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو 2021، ثم لاحقاً تعيين الحكومة الجديدة في شهر آب/أغسطس 2021، وسبقها انتخابات مجلس الشعب عام 2020 والتي يحتكر بها حزب البعث الحاكم أكبر عدد ممكن من المقاعد لصالحه. من تلك النقطة وبعد انخفاض مستوى العمليات العسكرية إلى حدّه الأدنى، شرع النظام في تنفيذ سياساته.
إن أغلب التشريعات التي أُقرّت في سورية منذ عام هي تشريعات يحاول النظام من خلالها الاقتراب من سمات الدولة الحديثة والعودة للمجتمع الدولي عبر الاعتناء بتفاصيل لم يكن قد سبق له التعاطي معها مطلقاً أو أن هذا التعاطي لم يكن بالعمق المطلوب، إذ قام النظام إما بتشريع قوانين جديدة أو تعديل أخرى بما يتوافق مع سياسته. وهذه التشريعات بحسب ترتيبها الزمني هي:
قانون حماية الطفل: صدر في شهر آب/أغسطس بالقانون رقم 21 لعام 2021، وهو القانون الأول من نوعه في سورية والمتعلق بحماية الطفل والذي يهدف كما صرّح النظام إلى “تعزيز دور الدولة بمختلف مؤسساتها العامة والخاصة في حماية الطفل ورعايته والتأهيل العلمي والثقافي والنفسي والاجتماعي لبناء شخصيته، بما يمكِّنه من الإسهام في مجالات التنمية كافة”.
حاول النظام من خلال القانون الظهور بمظهر الحامي للأطفال وحقوقهم عبر منح الطفل الحماية من أشكال العنف كافة، بالإضافة لمنحه حق التعلم، وحظر تشغيل الطفل الذي لم يتم 15 عاماً، بالإضافة لمنع استخدامه في مواد إعلامية وإعلانية وفنية استخداماً ينتهك خصوصيته، وعدم جواز انتسابه للأحزاب السياسية، كما حدد أهلية الزواج بتمام 18 عاماً.
كذلك حظر القانون تجنيد الأطفال أو إشراكهم في العمليات القتالية أو غيرها من الأعمال المتصلة بها، واعتبرهم غير مسؤولين جزائياً أو مدنياً عن الأفعال الجرمية المرتكبة لكونهم ضحية، بالإضافة لحماية الطفل من الإتجار به. كما نصّ القانون على تكفل الدولة بإصدار التشريعات واتخاذ التدابير اللازمة لتوفير هذه الحقوق للطفل.
تكمن الحقيقة في الفرق الشاسع بين ما يُصدره النظام وبين الواقع الذي أفرزه، إذ تشير المعلومات الواردة في تقرير للأمم المتحدة الصادر في شهر تموز/يوليو 2022 إلى أن 46 طفلاً جُنّدوا في ميليشيات موالية للنظام حتى نهاية عام 2021. كما سُجلت 48 حالة سلب للحرية للأطفال من قبل قوات النظام، بالإضافة لقتل 301 طفل في مناطق المعارضة على يد قوات النظام منهم 86 طفل قُتلوا جراء الغارات الجوية. ناهيك عن مقتل 22,941 طفلاً على يد قوات النظام في الفترة الممتدة بين عام 2011 و آذار/مارس 2022. ولايزال 6,358 طفلاً قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري في سجون النظام.
مرسوم إلغاء منصب المفتي: في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 أصدر بشار الأسد المرسوم التشريعي 28 لعام 2021 القاضي بتعزيز دور المجلس العلمي الفقهي وتوسيع صلاحياته، إذ انطوى هذا المرسوم على إلغاء منصب المفتي العام وكذلك منصب المفتي بالمحافظات، وذلك عبر تعديل عدد من مواد القانون المنظم لعمل وزارة الأوقاف الصادر بالقانون 31 لعام 2018.
وبالتالي لم يعد منصب المفتي ممثلاً بشخص واحد، بل تعداه ليصبح من اختصاص المجلس العلمي والفقهي الذي يتألف من 44 شخصاً برئاسة وزير الأوقاف ويضم ثلاثين عالماً يمثلون جميع المذاهب الإسلامية إضافة إلى ممثلين عن الطوائف المسيحية.
يعدُّ هذا المرسوم تحولاً في سياسة النظام الدينية عبر تجريد السنة السوريين من هذا المنصب وإلغاء ضمني لأكثريتهم في البلاد، كما أن هذا التحول “لا يرتبط بتخلي نظام الأسد عن مركزيته الشديدة أو توجهه توجهاً علمانياً جديداً، بل تكيف النظام مع التحديات التي فرضتها الثورة السورية والتغييرات التي طرأت على طبقة رجال الدين وعلاقتهم بالشعب، وبالتالي محاولة التعاطي مع الأزمة بطريقة مختلفة”.
سمح هذا المرسوم بإدخال الشيعة إلى دائرة الافتاء وبالتالي التماهي مع إيران، خصوصاً أن المرجعية الشيعية هي مرجعية عابرة للحدود وليست محلية، أي أن إيران دخلت المجال الديني في سورية بشكل رسمي.
قانون تجريم التعذيب: صدر قانون تجريم التعذيب في شهر آذار/مارس بالقانون 16 لعام 2022، وجاء القانون مقتضباً في عدد مواده وتفصيلاته، كما تراوحت العقوبات المفروضة على مرتكب جريمة التعذيب ما بين السجن ثلاث سنوات و الإعدام، وأيضا السجن المؤبد في حالة وقوع التعذيب على طفل أو شخص ذي إعاقة أو نجم عنه عاهة دائمة.
يعد هذا القانون الأول من نوعه في سورية، وهو ما يعتبر تحولاً من هذه الناحية، على الأقل نظرياً. أما واقع الأمر مختلف تماماً، إذ لم يتطرق القانون أبداً لأفراد الجيش والقوات المسلحة في حال ممارستهم للتعذيب، وذلك لأنهم محميون تماماً من رفع أي دعاوى شخصية بحقهم من دون إذن القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة. وينطبق ذلك على أفراد إدارة المخابرات العامة، وكذلك شعبة الأمن السياسي وقوى الأمن الداخلي (الشرطة) مع أنهما يتبعان لوزارة الداخلية، بالإضافة لعناصر الضابطة الجمركية التابعة لوزارة المالية.
لم يحدد القانون أطراً لمراقبة رسمية أو غير رسمية أو حتى مساحات عمل لهذه الأطر أو أدوارها، وبالأخص في السجون التابعة للنظام التي جرى تنفيذ عشرات آلاف عمليات التعذيب داخلها.
إضافة لما سبق، يأتي هذا القانون في ظل التبعات المتواصلة للصور المسربة من أفرع وسجون النظام من قبل الشاهد قيصر، ناهيك عن توثيق مقتل ما لا يقل عن 14,449 معتقلاً من ضمنهم 174 طفلاً و74 سيدة على يد قوات النظام السوري منذ عام 2011 وحتى آذار/مارس 2022.
قانون العقوبات العام: في شهر آذار/مارس صدر القانون 15 لعام 2022، الذي يتضمن إجراء تعديلات على قانون العقوبات العام، إذ ألغى القانون الجديد عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة من قانون العقوبات وسائر التشريعات الأخرى، واستبدلها بعقوبة السجن المؤبد أو المؤقت، كما رفع الحد الأدنى والأعلى للغرامات الواردة بالقانون، ما بين 25 ألف ليرة إلى 6 مليون ليرة وذلك بحسب طبيعة الجرم المُرتكب.
إضافة لذلك عدّل القانون الجديد كلاً من المادتين 285 و286 من قانون العقوبات بحيث تحدد عقوبة من قام في سورية بدعوات ترمي إلى “المساس بالهوية الوطنية أو القومية أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية” بالاعتقال المؤقت. ويستحق العقوبة نفسها من نقل في سورية أنباء” يُعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها بث اليأس أو الضعف بين أبناء المجتمع”، كما حدد عقوبة بالحبس سنة على الأقل لكل سوري قام بكتابة أو خطاب يدعو فيه إلى اقتطاع جزء من الأرض السورية أو التنازل عنها.
إن هاتين المادتين وبخاصة المادة 285 -والتي كان يتم الإشارة لها “بإضعاف الشعور القومي” – استخدمها النظام السوري بكثرة رفقة تهم أخرى متنوعة من أجل إلحاق تهم بحق المشاركين في المظاهرات في بداية الحراك الثوري في عام 2011، وهي تهم كانت وما زالت تُلقى جزافاً لكل من دخل في سجون النظام، ولاحقاً عند صدور مرسوم عفو يتضمن هاتين المادتين – كان يستثني المواد الأخرى.
قانون الجريمة المعلوماتية: صدر قانون الجريمة المعلوماتية في شهر نيسان/أبريل بالقانون 20 لعام 2022، وجاء القانون بديلاً عن قانون التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية الصادر بعام 2012، إذ توسع القانون الجديد بعدد القضايا التي يُعاقب عليها القانون السابق من 9 جرائم إلى 21 جريمة.
بشكل رئيسي توسع القانون بشكل مباشر في الجرائم المتعلقة بانتهاك الخصوصية، كما ارتفع عدد سنوات الحبس وكذلك مقدار الغرامات المادية التي يفرضها القانون الجديد بخلاف مقدار الغرامات السابقة في القانون السابق وذلك لتدني قيمة الليرة السورية أمام سلة العملات. على سبيل المثال، في حالة جريمة الدخول غير المشروع والعبث بالبيانات ارتفعت فترة الحبس من (3 أشهر – 2 سنة) إلى الحبس ما بين (سنة – 3 سنوات)، كذلك ارتفع مقدار الغرامة من (100 ألف – 500 ألف) ليرة إلى (700 ألف – 1 مليون) ليرة. وبالطبع أيضاً توسع القانون في الجرائم المتعلقة بالدستور أو النيل من هيبة الدولة أو مكانتها المادية.
بعد صدور القانون، باشرت وزارة الداخلية على الفور إعادة هيكلة فرع مكافحة الجرائم المعلوماتية وتأسيسه من جديد لمراقبة الفضاء الإلكتروني. ولم تمض فترة طويلة قبل أن تعلن وزارة الداخلية إلقاء القبض على عدد من الأشخاص بتهم مختلفة على خلفية قانون الجريمة المعلوماتية.
لا يكمُن الخوف من وجود القانون بحد ذاته بقدر ما يكمن في استخدامه كوسيلة جديدة لتكميم أفواه السوريين ممن بقي في مناطق سيطرة النظام أو حتى ملاحقة من هم خارج البلاد بتهم واهية بناءً على مواد هذا القانون، وبالأخص تلك المتعلقة “بالدستور أو النيل من هيبة الدولة”، أي أن النظام أعاد شرعنة حالة الطوارئ بوجه جديد وخفي.
مراسيم العفو: في شهر كانون الثاني/يناير أصدر بشار الأسد المرسوم التشريعي 3 لعام 2022، القاضي بمنح عفو عام عن جرائم الفرار الداخلي والخارجي، ويشمل هذا العفو كل من فرَّ من الخدمة العسكرية سواء من المتطوعين أو لمن كانوا في الخدمة الإلزامية، واشترط المرسوم على أن يسلم هؤلاء أنفسهم في مدة أقصاها 3 أشهر للفرار الداخلي و 4 أشهر للفرار الخارجي.
كان الهدف من هذا المرسوم هو قيام النظام بمجموعة تسويات أمنية جديدة في عدة مناطق سورية في الرقة وديرالزور وحلب وريف دمشق، وبالتالي الاستفادة ممن سبق له الانشقاق عن الجيش في السنوات الماضية وعودتهم للخدمة، مقابل توجيه رسائل للعسكريين المنشقين خارج البلاد وبالأخص في تركيا، نتيجة إغلاق مخيم خاص بالضباط المنشقين في ولاية هاتاي التركية كان قد تم افتتاحه عام 2011.
لاحقاً بنهاية شهر نيسان/أبريل أصدر بشار الأسد المرسوم التشريعي 7 لعام 2022، القاضي بمنح عفو عام عن “الجرائم الإرهابية” المرتكبة من السوريين، عدا تلك التي أفضت إلى موت إنسان والمنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب وقانون العقوبات العام وتعديلاته. استطاع المرسوم خلق تأثير إقليمي ودولي، لكن سرعان ما بدأت تظهر الثغرات القانونية التي تسمح للنظام بالاستمرار في سياسته الإجرامية التي انتهجها بحق الشعب السوري منذ عام 2011.
إن هذا المرسوم هو المرسوم الـ 23 منذ بداية عام 2011، مع ذلك ما زال في سجون النظام السوري ما يقرب من 132 ألف معتقل. ولم يطلق بعد إصدار المرسوم رقم 7 سراح سوى 539 معتقلاً ومعتقلة بمقابل قيام قوات النظام باعتقال ما يقرب 300 شخص ثم إطلاق سراح 28 منهم في الفترة ما بين بداية أيار/مايو ونهاية آب/أغسطس.
مرة أخرى حاول النظام الاستفادة من هذه التشريعات لإيصال رسائله للمجتمع الدولي في محاولة منه لكسر حالة العزلة التي يعاني منها منذ 2011، خصوصاً أن روسيا التي كانت تساعده في كسر تلك العزلة أصبحت معزولة دولياً أكثر من النظام ذاته بكثير.
رافق العمل على المجال التشريعي والقانوني العمل أيضاً على الجانب العسكري والأمني، إذ قام بشار الأسد بتاريخ 28 نيسان/أبريل 2022 بتعيين اللواء علي محمود عباس بمنصب وزير الدفاع، وهو سني من ريف دمشق خلفاً للعماد علي عبدالله أيوب المنتمي للطائفة العلوية والذي شغل المنصب منذ بداية عام 2018.
لاحقاً وبعد يومين فقط في 30 نيسان/أبريل، عين بشار الأسد ضابط المدفعية اللواء عبدالكريم ابراهيم وهو علوي من طرطوس بمنصب رئيس هيئة الأركان العامة بعد خلو المنصب منذ بداية عام 2018، إذ كان المنصب يُدار من قبل غرفة العمليات الروسية الموجودة بدمشق، ويمكن النظر لهذا التعيين على أنه استعادة للمنصب بعد انشغال روسيا في حربها على أوكرانيا .
لقد أثارت مراسم التعيين هذه مجموعة من التحليلات المرتبطة بها، خصوصاً تعيين ضباط برتبة لواء بمنصبي وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة، بخلاف العرف العسكري المرتبط بتعيين ضباط برتبة عماد في هذه المناصب. كما أن هذين الضابطين لم يكونا أقدم الضباط ممن يحملون رتبة لواء خلافاً للتراتبية العسكرية المتبعة في الجيش السوري وفي الجيوش عامة، لاحقاً تمت ترقية كل من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان لرتبة عماد. يعتبر الوصول والترقية لرتبة عماد أهم بكثير من الوصول لرتبة لواء إذ لا يتجاوز عدد من حمل رتبة عماد 25 ضابطا منذ تأسيس الجيش السوري بمقابل آلاف ممن حمل رتبة لواء وهذه الأخيرة ليست قليلة أيضاً بل تعتبر مدعاة للفخر وتنم عن درجة من القرب من قيادة النظام. ومع ذلك قد لا تكون الترقية لهذه الرتب قائمة على أساس حرفي مهني، بل قد يكون الولاء هو المعيار الأول لها.
في الواقع لم تتم مخالفة قانون الخدمة العسكرية أبداً، إذ أن الترقية لرتبة عماد تتم بالاختيار المطلق بين الضباط ممن يحمل رتبة لواء، كما أن التعيين في المناصب الكبرى يعود “لرئيس الجمهورية ويتم بمرسوم بناءً على اقتراح من القائد العام” (المنصبان يشغلهما بشار الأسد).
لقد كسرت هذه التعيينات مجموعة من الأعراف العسكرية المتبعة سابقاً، إذ أن كلاً من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة لم يسبق لهما شغل مناصب عسكرية قيادية في وحدات مقاتلة فعلياً كقيادة فرق أو فيالق عسكرية، كما أن منصب رئيس هيئة الأركان العامة يُشغل عادة من قبل ضابط يكون اختصاصه العسكري قوات برية أو دبابات وليس مدفعية كما هو الحال مع العماد عبدالكريم ابراهيم. إلى جانب ذلك، فإن تعيين وزير دفاع سني يكسر ولو قليلاً من نهج الصفاء العلوي في المؤسسة العسكرية، إذ أظهرت دراسة منشورة بعام 2020 أن أهم 40 منصب عسكرية وأمني يقودها ضباط من الطائفة العلوية.
لقد عمل وزير الدفاع العماد علي عباس لفترة طويلة كمدرب في كلية المدرعات ولاحقاً في الأكاديمية العسكرية العليا، كما أنه خضع لعدة دورات عسكرية خارج البلاد في باكستان والسويد وهولندا وبريطانيا، لعل أهمها اتباع دورة إصلاح القطاع الأمني في الدول الخارجة من الصراعات في بريطانيا عام 2006.
إن نمط هذه التعيينات بات أكثر وضوحاً خلال الأيام القليلة التي تلت ذلك، إذ لم يخضع كلٌ من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان للعقوبات الغربية أسوة بمن سبقوهما بهذه المناصب. كما أنهما غير معروفين بشكل وثيق من الشعب السوري، ولم يتم حتى الآن ربطهما بالجرائم التي ارتكبها الجيش. يضاف إلى ذلك نوعية الدورات العسكرية المتبعة وبالأخص في الدول الغربية، علماً أن قلّة قليلة من الضباط كانوا يوقدون لدورات في الدول الغربية مقارنة بروسيا والصين.
أما في القطاع الأمني فقد شهد حركة تنقلات وترقيات في المستويات القيادية العليا في أجهزة المخابرات (الأمنية) الأربعة الموجودة في سورية، إذ شهد شهر آذار/مارس الماضي تنقلات جديدة لعدد من ضباط أجهزة المخابرات، ولاحقاً في بداية شهر تموز/يوليو تم ترقية عدد منهم لرتب ومناصب أعلى.
بشكل مشابه للمجال العسكري، يبدو أن النظام في طريقه لإزاحة عدد من قادة وضباط الأجهزة الأمنية وترقية آخرين ووضعهم في واجهة تلك الأجهزة، على أن يكون هؤلاء الضباط ممن يصعب ربطهم بالجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري. ومن المتوقع تغيير كلٍ من رئيس شعبة المخابرات العسكرية ومدير إدارة المخابرات الجوية وكذلك مدير إدارة المخابرات العامة خلال الأشهر القليلة القادمة. ومن المحتمل أيضا نقل رئيس شعبة الأمن السياسي ليشغل منصب مدير إدارة المخابرات العامة.
من جهة أخرى على المستويات الدنيا في المؤسسة العسكرية، فقد أصدر بشار الأسد بصفته القائد العام قراراً إدارياً ينهي الاحتفاظ والاستدعاء للضباط وطلاب الضباط الاحتياطيين وتسريح الضباط وطلاب الضباط المجندين الملتحقين بالخدمة الإلزامية وإنهاء الاحتفاظ والاستدعاء لصف الضباط والأفراد الاحتياطيين. يهدف النظام من هذا القرار إلى تشجيع حملة الشهادات العليا كالطب والهندسة على البقاء بالبلاد من أجل دعم القطاعات المدنية في الدولة والتخفيف من موجات الهجرة التي يعاني منها.
يحاول النظام عبر مجموعة التشريعات والقوانين التي أصدرها خلال الفترة الماضية إظهار نفسه بأنه يتماشى مع منظومة حقوق الإنسان وأنه منطلق نحو رفع سورية البيئة التشريعية والقانونية بشكل مشابه للدول المتقدمة والحضارية. يدعم كل ذلك إطلاق النظام دورات تدريبية في مجال القانون الدولي الإنساني، بالإضافة لتصريحات مسؤولي النظام عن ريادة سورية في برامج التأهيل والتوعية المتعلقة بهذا المجال، لكن البيئة التشريعية لا تعاني نتيجة نقص في التشريع بقدر ما تعاني من فرق واضح بين النص والتطبيق، إذ أن عدد من القوانين الصادرة يرتبط بمعايير دولية ويقوم النظام بتمريرها بطريقة معينة تناسب بقاءه تماماً، لكن عند النظر إليها بشكل أعمق، نجد أنها ليست كافية بالضرورة أو أنها توفر غطاءً لأفعال معينة.
أما في المجال العسكري والأمني، يحاول النظام البدء بإعادة هيكلة تكتيكية في المستويات العليا في سلسلة القيادة ثم الانتقال نحو المستويات الأدنى في السلسلة، والاستفادة من التعيينات الأخيرة التي قام بها، عبر تقديم ضباط يمكن اعتبارهم من وجهة نظر النظام فقط لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب السوري، وخلال أشهر قليلة ستبدأ مجموعة من التغييرات ستطال مناصب مهمة في المؤسسة العسكرية، وربما سيُعاد النظر في التشريعات المتعلقة بالمؤسسة العسكرية لتتوافق مع سياسات النظام.
يهدف النظام من سياساته هذه إلى إعادة هيكلة البلاد ككل بما يتناسب مع مرحلة نهاية الحرب – وإن لم تنته بعد- وسيتم توسيع هذه السياسات لتشمل مجالات حيوية أخرى. سيكون لحلفائه روسيا وإيران وأهدافهم نصيب منها، بحيث يتم تضمين أهداف الحلفاء في السياسات الجديدة بمقابل الخدمات المقُدّمة سابقاً للنظام بما يضمن استمرار تقديمها لاحقاً.
بالتزامن مع ذلك، سيرسل النظام رسائل للمجتمع الدولي تستهدف ثلاثة ملفات رئيسية هي (اللاجئون – العقوبات – إعادة الإعمار) وذلك من أجل التخلص من الضغط المتواصل عليه في أول ملفين، ثم الاستفادة من الملف الثالث وإنعاش اقتصاده المتهالك. كما يريد النظام أن يقدم سردية مفادها أنه هو من يطرح الإصلاح وهو من يقوده، أي أنه يقول لا داعٍ للعملية السياسية برمتها، وبأنه المنتصر في الحرب ويجب التعامل معه من هذا المنطلق.
يبدو أن النظام مُقتنع تماماً بأن سياساته يمكن أن تساعده في تحسين نظرة العالم السلبية له، وأن بإمكانه عبر تلك الإجراءات مسح الذاكرة العالمية الممتلئة بالدمار والقتل الذي نفذه عبر استخدام الأسلحة الثقيلة وكذلك المحرمة دولياً بالإضافة لأسلحة التعذيب والحصار والتجويع بحق الشعب السوري.
وتكمن هنا مسؤولية المجتمع الدولي والدول المعنية بتذكير أنفسهم أولاً والنظام السوري وداعميه ثانياً بالقرارات الدولية الملزمة، وفرض حلاّ سياسيا يُسهم في إرساء السلم الأهلي بعد تحقيق العدالة الانتقالية، مع التذكير دوماً بأن المشكلة في سورية ليست قوانين وتشريعات أو هيكلة الدولة بل هي النظام ذاته الذي يطوع الدولة كما يريد.