زلزال الفجر الأسود في جنوب تركيا وشمال سورية
تم نشر المادة الأصلية على موقع: معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط (TIMEP): https://bit.ly/3K5uTAT
لم يخطر في بالي قط أن سفري إلى قرية صغيرة بجانب مدينة اسكندرون في ولاية هاتاي بالجنوب التركي لقضاء إجازة، حيث يستقر أهلي وأصدقائي، يمكن أن يتحول إلى كابوس، لا بل إلى واقع مرير، مرير جداً. في تلك الليلة، جافاني النوم حتى لحظة حدوث الزلزال، خصوصاً مع انقطاع الكهرباء بعد منتصف الليل بسبب العاصفة المطرية التي ضربت المنطقة. في الواقع لم أعرف سبب هذا الأرق الذي أبقاني مستيقظاً حتى الساعة 4:17 صباحاً، وهي اللحظة التي بدأ يهتز ويصرخ فيها كل شيء بما في ذلك البشر والبناء والأرض حتى.
مرّت الثواني ببطء شديد، وكأن بطأها يتناسب مع قوة الزلزال، بالكاد استطعت مع والدتي وإخوتي وأبنائهم الخروج من المنزل المؤلف من طابقين، حيث كان الرعب بادياً على وجوه الجميع، كان ظاهراً بقوة في أعينهم بالرغم من الظلام الدامس الذي غلّف كل شيء. ساد الصمت قليلاً ثم بدأ الجميع بالصراخ للاطمئنان على أنفسنا أننا بخير، وبعد ذلك مباشرة، بدأتُ الاتصال ببقية أقاربي في الحي ثم القرية التي يقطنون بها منذ نزوحهم إلى تركيا عام 2013.
أجبر النزوح من سورية – نتيجة الانتهاكات التي قام بها نظام الأسد – كل عائلة على أن تُنشئ مجموعة على تطبيق واتساب – في الغالب تتم تسميتها “عيلتنا” أو “العائلة” – وهو ما ساعدنا على التواصل جميعاً وبسرعة، حتى مع أخي الأكبر الذي يقطن في شمال غرب سورية منذ نزوحه هو الآخر.
لم ينته الرعب عند هذا الحد.. إذ عادت الأرض لتهتز مرة ثانية وبقوة، وما أن انتهت حتى بدأت أسمع أصوات انهيارات الأبنية في المنطقة القريبة حولي، وهو ما زاد من مرارة الحدث الذي لم أكن أدرك أبعاده حينها. بنظرة سريعة على تطبيق تويتر للتأكد من مدى قوة الزلزال عبر حساب مرصد الزلازل، وكانت قد مرت 10 دقائق بالضبط، فوجئت بتغريدة للدكتور يزيد صايغ يقول فيها أنه شعر بهزة أرضية في بيروت، وتعليق آخر يقول أنه شعر بالهزة في القاهرة، عندها علمتُ بشكل مبدئي أننا في خضم كارثة كبرى. لاحقاً، أعلن مرصد الزلازل بأن قوة الزلزال بلغت 7.8 على مقياس ريختر وهو ما زاد هلعي بشكل أكبر.
It’s 3.20am in Beirut and I felt an earthquake shake my bed and move things slightly in my room
— Yezid Sayigh يزيد صايغ (@SayighYezid) February 6, 2023
بقينا في العراء خارج المنازل تحت وابل من المطر، وظلام دامس يُخيم على كل شيء. رويداً رويداً بدأنا نعود للمنازل من أجل إخراج بعض الأغطية لندفئ بها أنفسنا مع احتضان الأطفال للتخفيف من هول المصاب عنهم، وبدأنا نُدرك ما حدث، بينما يصعُب ذلك على الأطفال بشكل كبير.
بدا الوقت أثقل مع كل لحظة تمضي، فالثانية تمر كالدقيقة، ولم تتكشف خيوط الفجر بعد، ومع ذلك بدأ بعض الناس بالوصول إلى الأبنية المنهارة لإخراج العالقين تحت أنقاضها. في البداية كانت عمليات الحفر تتم بجهود ذاتية، ولم تكن طواقم الإنقاذ قد وصلت بعد، لا لتقصير منها، لكن حجم الكارثة الكبير جعل أي جهود للإنقاذ تُشبه محاولة إطفاء حريق هائل بقربة ماء.
بعد شروق الشمس بدأت ملامح الكارثة تتكشف، وقد منعت الأحوال الجوية السيئة من توسيع الجهود المحلية لعمليات الإنقاذ مع تواصل هطول المطر، بالإضافة لذلك لم تتوقف الهزّات الارتدادية للزلزال عن تخويف الناس بين الفينة والأخرى – وصل عددها لـ 3666 هزة حتى مساء الثالث عشر من شباط – يذكر أن زلزال ثانٍ ضرب المنطقة بقوة 7.5 على بعد عشرات الأميال من الأول، حيث ساهم مع الهزات الارتدادية بحسب قوتها المختلفة في مزيدٍ من الدمار ، ومنعت الجميع من العودة للمنازل التي لم تتضرر.
قبل الظهيرة تقريباً، بدأت فرق الإنقاذ المحلية والإطفاء بالإضافة للإسعاف بالوصول للقرية التي أمكث فيها، وهي قريبة من مدينة إسكندرون على الطريق الدولي الواصل إلى مدينة أنطاكيا في ولاية هاتاي التركية. لحسن الحظ كانت الأضرار أقل مقارنةً بمناطق أخرى، وهي مقاربتي الشخصية بعد أن وسّعت دائرة اتصالاتي للاطمئنان على عدد من الأصدقاء القاطنين في أنطاكيا أو جوارها، هنا كنت في مفاضلة مريرة ما بين الاطمئنان أو الحفاظ على شحن هاتفي، بالنظر لانقطاع الكهرباء منذ منتصف الليل.
ساهم تضرر البنية التحتية في استحالة الاتصال في بعض الأحيان ونجاحه أحياناً أخرى، وتم الاعتماد بشكل مباشر على الاتصال العادي في ظل صعوبة كبيرة بالولوج لشبكة الإنترنت، وهو ما ساهم في تضارب الأخبار عن حال بعض الأقرباء والأصدقاء المتواجدين في كافة مناطق الجنوب التركي، خصوصاً مع سماعي بوقوع عدد من المعارف تحت أنقاض منازلهم. لاحقاً، علمت، ببالغ الأسى، أن بعض معارفي فارقوا الحياة، بينهم فتاة صغيرة توقف قلبها نتيجة الخوف والهلع الذي تسبب به الزلزال، وهي ابنة صديق لي كنت قد زُرتهم في منزلهم بالقرب من أنطاكيا قبل الزلزال بيوم.
أمضينا الليلة الأولى خارج المنازل، مستخدمين وسائل تدفئة بدائية، بالمعنى الحرفي للكلمة “أكلنا” البرد، تلك الليلة التي أُطلق عليها اسم “الليلة الطويلة”، لا أحد يستطيع النوم، لا كهرباء، لا ماء، ووجودنا في أماكن قريبة تسبب في استهلاك مُدخرات الخبز والطعام ، وهو ما اقتسمناه بكل حب وإيثار بانتظار الفجر.
في اليوم الثاني للزلزال،7 شباط، كانت الكارثة قد بدأت تتضح بشكل أكبر، فالخسائر في الأرواح كبيرة وعدد الجرحى أكبر، وعمليات الإنقاذ مستمرة خصوصاً مع بدء وصول طواقم الإنقاذ والمعدات الهندسية إلى المناطق المنكوبة. جارة لنا، بقيت أختاها الاثنتين تحت الأنقاض لمدة أربعين ساعة دون أن نستطيع معرفة ما إذا كانتا على قيد الحياة أم لا، قبل أن يتمكن أحد الصبية من سماع صوت إحداهما، وهو المطلوب لتقوم طواقم الإنقاذ بالبدء برفع الأنقاض، وقد تمكنوا من الوصول إليهما على قيد الحياة وإنقاذهما، وهو ما اعتُبر معجزة في حينها باعتبار أن ساكني الشقة التي فوقهما قد توفوا في اليوم الأول.
اتصل بي بعض الأشخاص من مناطق لم يطالها الزلزال من أجل التوجه لمدينة أنطاكيا – تبعد 53 كم عن مكان وجودي – والذهاب لعناوين محددة يقطن فيها أحباء وأصدقاء لهم، وبالرغم من صعوبة الوصول إلى المدينة؛ تمكنت أخيراً من دخولها، الصدمة كانت كبيرة جداً… الأبنية والمنازل والمحلات التجارية على جانبي مدخل المدينة قد خرّت على الأرض، المشهد الذي استمر عند دخولي من طريق فرعي، أغلب الأبنية في المدينة قد انهارت ولامست جباهها الأرض، أما تلك التي بقيت صامدة فقد تصدعت بشكل رهيب بحيث يستحيل السكن فيها مُجدداً.
لم تستطع السيارة أن تكمل الطريق إلى داخل مدينة أنطاكيا، حاولتُ الوصول إلى العناوين التي بحوزتي دون جدوى، لقد كانت شبكة الاتصالات مقطوعة تماماً بالرغم من استخدامي لشريحتي اتصال من شركتين مختلفتين وبالرغم من محاولة هذه الشركات تسيير عربات متنقلة بدلاً عن أبراج الاتصال التي دمّرها الزلزال. ومع استحالة الوصول قررت العودة لمكان إقامتي، وهو ما اضطرني للمشي مسافة 10 كم على الأقل باتجاه مخرج المدينة، ومع انعدام حركة النقل العام، بدأت استوقف السيارات لإقلالي باتجاه إسكندرون. إن المشاهد التي رأيتها في مدينة أنطاكيا مُرعبة جداً، وأعتقد أنها ستبقى طويلاً عالقة بذاكرتي برفقة ذكريات الحرب التي عشتها ما بين عامي 2011 و2013 قبل نزوحي إلى تركيا.
يُشبّه البعض – وأنا منهم – ما حدث بالتصورات عن يوم القيامة، نظراً لحجم الأهوال التي عايشناها. إن عملية دفن الموتى كانت سريعة في اليوم التالي لحدوث لزلزال، واعتبر رجال الدين أن المتوفين شهداء، وعليه دُفن الموتى بلباسهم ودمائهم وبالغبار العالق على ثيابهم أو ضمن رئاتهم، ومُنحت القبور أرقاماً، وتم توثيق وجوه المتوفين بعدد كبير من الصور، من أجل العودة إليها لاحقاً، لا أعلم إن كانت السلطات قد احتفظت بعينات من الحمض النووي للمتوفين.
استمرت سيارات الإسعاف بالتدفق عبر الطريق الواصل ما بين مدينتي إسكندرون وأنطاكيا، وأصواتها ما زالت عالقة في أذني حتى اللحظة، بالإضافة لأرتال المعدات الهندسية وفرق الإنقاذ المحلية أو الدولية التي وصلت لاحقاً. بطبيعة الحال كان هول الكارثة أكبر من أن تستطيع آفاد (AFAD) – وهي المؤسسة التي تم إنشاؤها لمواجهة الكوارث – تحمّل عبء العمل وحدها، وتضافرت جهود الدولة التركية بما فيها الجيش والجندرما، بالإضافة لمؤسسات الدولة والبلديات الأخرى البعيدة عن مناطق الزلزال وكذلك منظمات المجتمع المدني والأهالي في محاولة رفع هذا العبء الثقيل.
في تركيا، بالرغم من كافة المآسي ومقتل 37,000 شخص وإصابة 81 ألف آخرين في حصيلة غير نهائية، تم بذل جهود كبيرة في سبيل إنقاذ الأرواح أو إيواء المتضررين، لكن التقصير الذي حصل يمكن مردّه لمجموعة من الأسباب المعقدة، كحجم الكارثة الكبير وامتداده لعشر ولايات، بالإضافة لحجم الفساد من مقاولين البناء وبعض البلديات في المناطق المتضررة، وكذلك تضارب تنسيق الجهود.
بالمقابل كانت المنظمات في شمال غرب سورية وعلى رأسها “الخوذ البيضاء” تسابق الزمن من أجل إنقاذ الأرواح، وقد تمكنت من القيام بذلك بشكل جيد نوعاً ما، على الرغم من كافة الظروف السيئة المحيطة بها، كتخاذل الأمم المتحدة عن نجدة المتضررين في الشمال السوري متذرعة بحصر دخول المساعدات عبر معبر “باب الهوى” فقط بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 2672.
زاد ذلك من حجم الكارثة بشكل كبير ومن محنة الأهالي في شمال غرب سورية، حيث سُجل سقوط ما لا يقل عن 2,274 قتيل و 2,950 مصاب حتى تاريخه، وتمت عمليات الإنقاذ وجهود الإيواء بجهود محلية بشكل شبه كامل، بالإضافة لبعض المساعدات المرسلة من عشائر المنطقة الشرقية في سورية، بالإضافة لدول كالسعودية وقطر.
وسط مشاهد الدمار الكئيبة، كان هناك مشهد آخر مُجرد من الإنسانية بشكل فجّ، حيث ظهر رأس النظام السوري بشار الأسد في اجتماع مع أعضاء حكومته وبدا مُبتسماً وتعلو وجهه بشاشة، رغم أن بعض مناطق سيطرته تضررت وسقط 1,414 قتيل بالإضافة لإصابة 2,349 نتيجة انهيار بعض المباني المتضررة أصلاً بفعل براميله المتفجرة التي ألقاها على الشعب السوري منذ عام 2011، وعاد ليكرر فعلته يوزع ابتسامته الصفراء مرة أخرى حين زار مدينة حلب للقاء المتضررين من الزلزال.
بدا بشار الأسد سعيداً ليستغل هذه الكارثة ضمن جهوده الرامية لرفع العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة عليه، بحجة دعم جهود الإنقاذ والرعاية، علماً أن هذه العقوبات لا تستهدف أياً من المساعدات الإنسانية أو الطبية أو الغذائية. مع ذلك، صدر استثناء إنساني من حكومة الولايات المتحدة سمح بتعليق العقوبات على المعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة 6 أشهر، يُذكر أن عدة طائرات من دول عربية وإقليمية هبطت في مطارات سورية تحمل على متنها مساعدات طبية وإغاثية، حيث تواردت الأنباء لاحقاً عن قيام شبكات الفساد التابعة للنظام ببيع قسم من المساعدات التي وصلت.
إن زلزال تركيا المدمّر، سيُغير وجه المنطقة من عدة نواح؛ ديمغرافية واقتصادية واجتماعية وغيرها الكثير، وسيكون نقطة فارقة في التاريخ الحديث في القرن الحادي والعشرين، وسيتذكر عدد كبير من السوريين والأتراك – وأنا منهم – العديد من الأحبة ممن وضع هذا الزلزال حداً لحياتهم، وكان سبباً في حزن الملايين.
اليوم، يعيش بعض الأتراك تجربة النزوح لأول مرة بكل ما تعنيه كلمة النزوح من معنى، أما السوريون فيعيشونها مجدداً بعد أن عايشوها قطعاً مرة أو عدة مرات، لكن المفارقة هنا أن هناك دولة تدعم بقائهم على قيد الحياة وترعى مصالحهم، أما السوريون فقد كانت دولتهم السبب المباشر لآلامهم.
بعد عدة أيام عدت لإسطنبول، متسلحاً بالعزيمة – بالرغم مما أعانيه – من أجل مساعدة كل من تضرر من الزلزال، مقتنعاً أن وجودي في المنطقة لن يفيد بقدر عودتي وانخراطي في أنشطة “المنتدى السوري” المؤسسة الأم لـ”مركز عمران للدراسات“، وكذلك أنشطة “معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط” الداعمة لمتضرري الزلزال، وذلك عبر جمع التبرعات أو التحشيد لتقديم المساعدة وإيصال صوت السوريين بعيداً، ولأخبر العالم أن يكون بجانب المتضررين وألا يدعهم لمصير نهايته الموت مرة أخرى وبأن لا يخذلهم بعد أن عانوا لسنوات طِوال بسبب إجرام النظام السوري.