انهيارات الجيش ومكاسب المعارضة تمهد لتحوّل جذري في الصراع السوري
تقدمت فصائل المعارضة السورية بشكل غير مسبوق في شمال غرب البلاد، مسيطرةً على مدن استراتيجية كحلب وحماة، بينما تنذر الانهيارات المتسارعة في صفوف الجيش السوري بتحولات جذرية في مسار الصراع المستمر منذ أكثر من عقد.
تم نشر المادة الأصلية على موقع: معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط (TIMEP): https://bit.ly/41eWQyK
شنت عدد من الفصائل السورية هجوما مباغتًا واسع النطاق على مواقع للجيش السوري في شمال غرب البلاد، محققة مكاسب عسكرية كبيرة تمثلت بالسيطرة على مدينتي حلب وحماة الرئيسيتين، وتمهيد الطريق للهجوم على حمص، في تطور فاجأ جميع المراقبين داخل وخارج سورية لما يحمله من انعكاسات خطيرة على المشهد السوري بأكمله.
الهجوم، الذي أسفر عن سقوط مئات القتلى بينهم مدنيون، هو الأول من نوعه الذي تحقق فيه المعارضة تقدمًا ميدانيًا منذ سنوات، مما يعيد جبهة شمال غرب سورية إلى واجهة الصراع بعد فترة من الجمود. في المقابل، عجز الجيش السوري وحلفاؤه عن التصدي لهذا التقدم، حيث انهارت دفاعاته بسرعة لم يتوقعها أكثر خصومه تفاؤلًا.
تأتي هذه العملية في سياق ركود المفاوضات بين تركيا وسورية، ورفض الرئيس السوري لقاء نظيره في أنقرة، وعرقلة مسار التطبيع، وامتناع النظام عن تقديم أي تنازلات تتعلق بالحل السياسي للأزمة في البلاد.
لقراءة هذه الأحداث التي كسرت سنوات من الجمود في الحرب السورية وانعكاساتها في ضوء الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، تحدثنا محسن المصطفى، الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، والزميل السابق بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط.
عدد كبير من الفصائل شاركت في العملية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية يوم 27 نوفمبر تحت مسمى ”ردع العدوان“، ضمن غرفة عمليات واحدة أطلق عليها اسم ”إدارة العمليات العسكرية“. أبرز هذه الفصائل هي هيئة تحرير الشام وجيش العزة وجيش الأحرار وحركة نور الدين الزنكي والجبهة الشامية وغيرها من الفصائل المعارضة لنظام الأسد.
تبع هذه العملية هجوم منفصل شمال شرقي البلاد، شنته فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا تحت اسم ”فجر الحرية“ ضد قوات النظام وميليشيات كردية.
أكبر الفصائل المهاجمة، وأبرزها، هي هيئة تحرير الشام التي تتمتع بوجود قوي في محافظة إدلب شمال غرب البلاد وفي ريف حلب الغربي. تشكلت الهيئة في يناير 2017، بعد اندماج عدة فصائل من المعارضة المسلحة في شمال سورية، أهمها جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة، والتي سُميت لاحقًا بـ”جبهة فتح الشام“ بعد إعلان انفصالها عن التنظيم. تمتلك الهيئة أسلحة ثقيلة مثل الدبابات والمدافع، ويقودها أحمد الشرع المعروف بأبي محمد الجولاني. هيئة تحرير الشام مصنفة حاليًا كـ”منظمة إرهابية“ من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تركيا أيضًا، تصنّفها كمنظمة إرهابية، لكنها في نفس الوقت مستفيدة من الهجوم الحالي.
أما الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا فهو تشكيل عسكري تأسس أواخر 2017، ينشط بشكل رئيسي في شمال سورية، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها القوات التركية، ويحصل على دعم عسكري من الحكومة التركية. ولذلك، فهو يُعتبر ذراع أنقرة لتحقيق أهدافها داخل سورية، وأهمها مواجهة ”قوات سوريا الديمقراطية“ (قسد) الكردية المدعومة أمريكيًا، وكذلك تنظيم داعش.
استطاعت الفصائل كسر خطوط الدفاع الخاصة بالنظام السوري والميليشيات المحلية والأجنبية المتحالفة معه بسرعة فائقة في حلب، لتبدأ بعدها سلسلة من الانهيارات لهذه القوات بعد فقدان سلسلة القيادة والأوامر لديها. وبالتالي سيطرت المعارضة على مناطق شاسعة تبلغ أكثر من ضعفي أو ربما ثلاثة أضعاف المساحة التي كانت تحت سيطرتها قبل الهجوم، ومن ضمنها مدينة حلب ومدينة حماة ومدن سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون وعدد كبير من البلدات والقرى والمواقع الاستراتيجية.
لاحقاً، افتتحت فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا عملية ”فجر الحرية“ انطلاقًا من محور مدينة الباب في شمال شرق سورية، بهدف السيطرة على مناطق تتبع النظام، ومناطق أخرى تسيطر عليها ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية (YPG). واستطاعت فصائل الجيش الوطني التقدم جنوبًا حيث تمكنت من السيطرة على عدد كبير من البلدات والقرى شرق حلب، وكذلك المواقع العسكرية التابعة للنظام، كمطار كويرس العسكري والمحطة الحرارية.
تشغل مدينة حماة التي سيطرت عليها فصائل المعارضة يوم 5 ديسمبر مكانًا استراتيجيًا هامًا وحيويًا في الصراع السوري. وتنبع أهمية المدينة من موقعها الجغرافي على الطريق الدولي (M5)، وكذلك رمزيتها وتاريخها كمدينة قاومت نظام الأسد منذ ثمانينيات القرن الماضي. كما أن المدينة تُعتبر نقطة التقاء بين الصحراء السورية من جهة الشرق، وأرياف إدلب شمالًا، وفيها شبكة مواصلات هامة، فضلًا عن وجود مطار عسكري في غربها. كما أن السيطرة عليها تسهل التقدم نحو مدينة حمص. هي أيضًا تعطي المعارضة، وتركيا كدولة راعية، أوراق مهمة يمكن استعمالها في المفاوضات.
تم أيضًا إطلاق سراح عدد من المعتقلين في المقار الأمنية وكذلك من سجن حلب المركزي وسجن حماة المركزي بعد السيطرة على المدينة وإطلاق سراح 3000 معتقل منه. بعض هؤلاء قضوا سنوات طويلة في السجن، وكان من المفترض أن تشملهم مراسيم العفو التي أطلقها النظام سابقًا.
على المستوى العسكري، يفترض أن هناك هدنة ضمنية سارية منذ توقيع الاتفاق الروسي-التركي في مارس 2020، والذي نص على وقف إطلاق النار وإقامة ممرات أمنية وإبعاد مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية عن الحدود مع تركيا. لكن منذ ذلك الحين لم يتوقف نظام الأسد عن استهداف شمال غرب سورية، سواء بالقصف المدفعي أو من خلال الطيران الحربي، وخلال الأشهر الماضية قام النظام مع حلفائه بمهاجمة المنطقة بعدد كبير من الطيران الانتحاري، واستهدف المدنيون بشكل كبير.
”ردع“ هذه الهجمات هو السبب المُعلن الذي استدعته المعارضة لشن العملية العسكرية الحالية.
وعلى المستوى السياسي، رفض النظام التنازل أمام أي مبادرة لحل الأزمة السورية والأخص فيما يتعلق بموضوع عودة اللاجئين، وفضل اللعب على كافة الأطراف وشراء الوقت عبر المماطلة، وهو ما أدى إلى انسداد الأفق أمام أي حل سلمي سياسي وجعل الحل العسكري الخيار الوحيد المتبقي أمام القوى المعارضة.
إن انهيار قوات النظام كان مفاجئًا، خصوصًا أنها تمكنت في الفترة الممتدة من 2016 إلى 2020، بمساعدة حلفائها، من استعادة مناطق واسعة كانت خارج نطاق سيطرتها. ويمكن إرجاع هذا الانهيار لمجموعة عوامل، أهمها:
تخوف جزء من الأهالي من سيطرة المعارضة على المدينة خصوصًا في الأيام الأولى لدخول الفصائل وشهدت المدينة بعض النزوح منها، في حين بقي الكثير في بيوتهم ومنازلهم بعد أن قدم عناصر الفصائل وعودًا بحمايتهم بغض النظر عن العرق والدين والمذهب.
وبالنسبة لرسائل هيئة تحرير الشام المبشرة بمعاملة عادلة لجميع الأقليات، ومنهم الأكراد، يبدو أنها تأتي بنتائج إيجابية، حتى الآن، خصوصًا أنها اقترنت ببعض الأفعال على الأرض، حيث أقام المسيحيون في المدينة صلواتهم في يوم الأحد الماضي دون مضايقة.
لكن علينا الانتظار ومراقبة كيف ستترجَم وعود هيئة تحرير الشام على الأرض مع مرور الوقت.
تحاول إيران وقف الهجوم عبر إرسال رسائل تطمين للنظام بأنها ستقدم له المساعدة العسكرية. ذلك بالإضافة إلى تقديم الدعم السياسي عبر زيارة وزير الخارجية الإيراني لدمشق ولقائه الأسد.
أما روسيا، فيبدو أن موقفها ليس كالسابق، على الرغم من زيارة بشار الأسد لموسكو ولقاء بوتين. إلا أن الزخم الروسي في المعركة ما زال أقل من المعتاد، بسبب تطورات الحرب مع أوكرانيا. وعلينا أن ننتظر ونرى إن كان سيتم تطويره لاحقًا، بالأخص مع سيطرة فصائل المعارضة على مدينة حماة.
ينفذ طيران النظام الحربي، وأحيانًا الروسي، غارات جوية على مناطق سيطرة المعارضة سواء القديمة أو المسيطَر عليها حديثًا. وبالفعل ارتكبت هذه الطائرات عدة مجازر في حلب وفي إدلب.
أجرى الأسد مجموعة من الاتصالات مع رؤساء عدد من الدول مؤكدًا أن سورية تتعرض ”لهجوم إرهابي“ وبأن بلاده ستتصدى لهذا الهجوم بكل حزم وقوة وبأن ”الإرهاب لا يفهم إلا لغة القوة“.
من جهة أخرى، تقوم قوات النظام بحملات تجنيد في عدد من المناطق وتقوم بتجنيد حتى من لديه تأجيل عسكري أو قد دفع بدل الخدمة العسكرية، وذلك في محاولة لصد التقدم العسكري لفصائل المعارضة.
يمكن ربط الهجوم بمسار التطبيع التركي مع نظام الأسد، والذي وصل لطريق مسدود نتيجة تعنت دمشق. ولكن رغم ذلك، لا يبدو أن تركيا تقف وراء الهجوم بشكل مباشر. فقد أشارت تصريحاتها أنها تراقب الوضع، مع التأكيد على أن العمليات تجري في مناطق خفض التصعيد التي كانت قد سيطر عليها النظام في أواخر عام 2019 وبداية 2020.
وبشكل عام، لا تزال أهداف أنقرة في سورية واضحة، وتشمل مكافحة الإرهاب من وجهة نظرها (داعش وقوات سوريا الديمقراطية)، ومعالجة ملف اللاجئين، ودفع العملية السياسية. ملف التطبيع مع نظام الأسد يعد جزءًا من هذه الأهداف. قد تدفع التطورات الأخيرة عملية المفاوضات بين تركيا ونظام الأسد برعاية روسية. وأتوقع أن يكون لتركيا قوة أكبر في المفاوضات بسبب هذه الأحداث.
إن الهجوم الذي حدث ذو أهمية بالغة، لعدة الأسباب، فقد أعاد الملف السوري للساحة الدولية، وأثبت مرة أخرى أن الأسد لم ينتصر بالحرب.
في حال تمكنت الفصائل المقاتلة من الحفاظ على مكاسبها في المعارك الجارية، قد تكسر الجمود السياسي والاستعصاء في الملف السوري الذي رفض الأسد منذ سنوات أن يقدم فيه أي تنازل.
لهذه العملية العسكرية أيضًا رمزية كبيرة. خاصة أن مدينة حماة عانت مجازر الأسد في الثمانينات وكانت خارج معادلة الثورة منذ سيطرة النظام عليها شهر أغسطس 2011. السيطرة عليها يزيد من عزيمة المقاتلين للتقدم ودخول على مدن أخرى. كما تزرع هذه الانتصارات الأمل في نفوس معارضي النظام وأعدائه بأن الخلاص من حكم عائلة الأسد ليس فقط ممكنًا، بل ربما يكون قريبًا. خاصة بعد أن أظهر الجيش السوري هشاشة بالدفاع عن مواقعه ضد عملية الفصائل، في غياب مساندة خارجية قوي. وهو ما قد يؤدي أيضًا إلى أن تتخلى عنه القوى والدول التي تدعمه.
الأحداث العسكرية وعمليات القصف الجوي والمدفعي الذي يقوم به النظام يعيد سورية للمربع الأول بانعدام الأمان فيها في حال استمرار هذا القصف وبالتالي سيصعب الحديث الجاد عن أن سورية بلد آمن يمكن للاجئين العودة إليه.
لكن في حال استمرت سيطرة المعارضة على هذه المناطق، وتم تأمينها من عمليات القصف الجوي والمدفعي (عن طريق فرض حظر جوي مثلًا) فقد يعود مئات آلاف النازحين إلى منازلهم ومناطقهم في كل من حلب وحماة وريفها وكذلك أرياف إدلب. سيخفف ذلك من حالة الاكتظاظ السكاني الموجود في الشمال، وسيسهم أيضًا في إفراغ مخيمات النزوح.
ويجب ألا ننسى أن الكثير من القرى والبلدات بحاجة إلى إعادة إعمار لبنيتها التحتية، بمعنى أن عودة اللاجئين بشكل كامل مستحيلة قبل فترة طويلة من الزمن.
محسن المصطفى: زميل غير مقيم سابق في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط (TIMEP) مهتم بشؤون الأمن والجيش والحكم في سورية. وهو حالياً باحث في مركز عمران للدراسات الإستراتيجية. @MuhsenAlmustafa