أزمات وصراع: زيارة إلى الشمال السوري
ما بين نظام الأسد وجرائمه المستمرة، ومأساه زلزال شباط\فبراير 2023، يعيش السوريون في شمال البلاد محنة مزدوجة. نرصد بعض المشاهدات من على الأرض بعد عام من الزلزال لنفهم ديناميكيات الشمال السوري والتحديات التي يواجهها أهله لبناء حياة جديدة ومستقرة
تم نشر المادة الأصلية على موقع: معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط (TIMEP): https://bit.ly/3I8rFug
في الذكرى الأولى لزلزال 6 شباط/فبراير 2023 الذي ضرب جنوب تركيا ومناطق بشمال سوريا، تعود إليّ الذكريات الأليمة لما عايشته فجر ذلك اليوم الأسود أثناء وجودي في ولاية هاتاي التركية، ثم عودتي إلى اسطنبول للمشاركة في الجهود التي نفذها “المنتدى السوري” لمساعدة الأهالي المتضررين. ثم ذهابي بعد شهر نحو الشمال السوري لمتابعة جهود الإغاثة على الأرض.
امتدت الزيارة لعدة أيام، رأيت فيها كيف يتعامل السوريون مع محنتهم الثانية التي سبّبها الزلزال، بالإضافة لمحنتهم الأولى والمستمرة المتمثلة بنظام الأسد وجرائمه المتواصلة بحقهم. فهمت عن قرب ديناميكيات المنطقة، حيث يكافح السوريون من أجل حياة مستقرة بعد أزمة ثلاثية، بدأت من ثورة سلمية ثم نزاع مسلح تسبب في واقع يومي من الأزمات، وصولاً لزلزال مدمر سلّط الضوء على الكثير من هذه الأزمات وأفرز في الوقت نفسه أزمات جديدة.
بعد الهبوط بمطار غازي عينتاب جنوب تركيا صباح الأربعاء 15 آذار/مارس 2023، جاء الدخول إلى سوريا عبر معبر الراعي، أحد المعابر الجديدة التي افتتحتها أنقرة مع مناطق الشمال السوري بعد عملية درع الفرات 2016. المعبر مخصص لعبور الشاحنات التجارية بشكل أساسي، والأفراد أو التجار الذين يملكون إذنًا خاصًا.
خارج بوابة المعبر، استقبلتنا السيارات العائدة لمنظمة “إحسان للإغاثة والتنمية“، إحدى برامج المنتدى السوري، للتوجه نحو مدينة اعزاز، والتي أصبحت إحدى أهم مدن الشمال السوري نتيجة الحركية العالية التي تتمتع بها بعد نزوح عدد كبير من السوريين إليها، ولقربها أيضاً من الحدود التركية. بدا الطريق مقبولاً نوعاً ما من الناحية اللوجستية رغم ضيقه. ومن اعزاز توجهنا لمدينة عفرين لزيارة عدد من مراكز الإيواء المؤقتة.
امتدت الخيام الملاصقة لبعضها البعض، بالقرب من المنازل المتضررة، وفُرِشَت أرضية المركز بالحصى لمحاربة الطين، فالشتاء لم يكن قد انتهى بعد. كل مركز إيواء له مشرف من قاطنيه، ولكل خيمة رقم خاص، ولكل منها لوح طاقة شمسية لتوليد الطاقة الكهربائية، بينما تنتشر على جوانب بعض الخيام ملصقات تُشجع على تقديم الشكاوى في حال وجود أي قصور في الخدمات أو حالات عدم التوزيع العادل للمخصصات، أو سوء استخدام للسلطة، كل هذا بجانب ملصق يشجع على التبليغ عن أي حالات استغلال أو اعتداء جنسي.
في اليوم التالي توجهنا نحو مدينة جنديرس، إحدى المدن التي تضررت بشدة نتيجة الزلزال. كل الأبنية في المدينة تأثرت، بعضها سقط بالكامل فوق ساكنيه، والبعض الآخر صمد الطابق الأرضي به، لكن الطوابق الأعلى تحولت لطبقة من الأسمنت ارتفاعها متر إلى متر ونصف على الأكثر. شاهدت عمليات إزالة الأنقاض، إما بجهود أهلية أو بجهود المنظمات العاملة في المنطقة وعلى رأسها منظمة الخوذ البيضاء/الدفاع المدني، والتي شكلت فيما بعد تحالف عملياتي مع كل من الجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز) والمنتدى السوري، لمواجهة الآثار المترتبة عن الزلزال.
ثم جاء يوم الجمعة وكنا في مدينة اعزاز. وكان مقررًا يومها إحياء الذكرى الثانية عشرة للثورة السورية. توجهنا لصلاة الجمعة، كانت الخطبة ثورية أكثر منها دينية، اللافت فيها كان إصرار الإمام على تعريف الجيل الجديد بالجيل الذهبي للثورة وشخوصها ومناقبهم. توجهنا للمشاركة في المظاهرات في ذكرى الثورة، كانت المظاهرة الأولى لي منذ عشر سنوات، مع فارق كبير: أنا الآن محمي من قبل الجهات الأمنية المحلية، على عكس المظاهرات السابقة التي شاركت بها في عامي 2011 و2012، وتعرضت خلالها لإطلاق نار مباشر من قبل قناصة وقوات النظام، أو من خلال هجمات قطعان الشبيحة.
بعد المشاركة في إحياء ذكرى الثورة، افترقت عن بقية الفريق وتوجهت نحو إدلب، الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام. عند المعبر واجهنا طابور طويل من السيارات بانتظار التفتيش الأمني أو التجاري، تنتشر الحواجز بعد المرور أيضاً، يرتدي العاملون عليها اللثام لإخفاء هوياتهم.
يمر الطريق الطويل المؤدي إلى مدينة كفرتخاريم بمحافظة إدلب بأراضي مزروعة غالباً بشجر الزيتون. انعطفنا نحو الطريق الجبلي، بالقرب من معرة مصرين التابعة لإدلب، حيث ظهرت المحاجر بجانب الجبل، أخبرني السائق أن ملكية هذه المحاجر أصبحت تعود لأشخاص محسوبين على هيئة تحرير الشام مثلها مثل عدة قطاعات اقتصادية أخرى في المنطقة.
يسيطر على المناطق الشمالية في سوريا عدة جهات مختلفة، تمتلك كل منها أجهزتها الحكومية والعسكرية والخدمية، وتفصلها عن بعض حدود ومعابر تتباين في بعض الأحيان سهولة عبورها للأفراد والبضائع.
وتلك الجهات هي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) و المعارضة السورية المتمثلة في “الجيش الوطني” و”الحكومة المؤقتة”، وهيئة تحرير الشام (هتش) وذراعها الحكومي “حكومة الإنقاذ“.
سمحت لي الزيارة برؤية أعمق للحدود “السورية – التركية” بعدما أصبحت المنقطة ممراً رئيسياً للتهريب المتبادل بين البلدين أو داخلياً. أصبح للمنطقة حدوداً جديدة، تبعاً للقوى التي تسيطر على الأرض، نقاط تماس تحمل في طياتها خطراً في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تحمل النفط؛ البضائع؛ المخدرات؛ وكذلك البشر. لتصبح في النهاية تلك الحدود، حدود صراع، سيطرة، عبور، وتهريب، بحسب الحالة التي تكون بها وبحسب طبيعة العلاقة بين القوى المتصارعة. في المقابل، تبقى الحدود بين المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة مع النظام مغلقة بشكل كامل، ويبقى الأمر محصوراً بعمليات التهريب المكلفة مادياً.
من جهة أخرى سمح الزلزال وتداعياته اللاحقة للنظام السوري بالاستفادة من تأكيد سيادة لا يملكها على المعابر الحدودية مع تركيا. فمع استخدام روسيا لحق النقض/الفيتو لمنع تجديد القرار الأممي /2672/ الخاص بإدخال المساعدات عبر الحدود، قام النظام عبر قرارات قابلة للتجديد بالسماح لمنظمات الأمم المتحدة باستخدام المعابر مع تركيا لإدخال المساعدات، وبذلك فرض نفسه كطرف أساسي للموافقة على إدخال المساعدات لمناطق لا يسيطر عليها، علماً أن هناك أسس قانونية تسمح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى سوريا بشكل مستقل عن قرارات مجلس الأمن الدولي، وعن رغبات نظام الأسد وحليفته روسيا.
أمام إحدى محطات الوقود، توقف السائق لملء الخزان، لكنها لم تكن المحطة التي اعتاد على التعامل معها، وبعد أقل من ساعة توقفت السيارة بسبب سوء جودة الوقود، ولم نستطع المضيّ قدماً حتى وافتنا سيارة أخرى لاستكمال الطريق.
يشكل إنتاج وتجارة المشتقات النفطية أحد أهم القطاعات الاقتصادية في الشمال، إذ يتم الحصول على النفط إما من مناطق سيطرة قسد أو من تركيا. قرب مدينة جرابلس يوجد سوق للمحروقات، يتم فيه تقطير النفط بطرق بدائية ضمن حراقات للحصول على المشتقات النفطية كالبنزين والمازوت، ويضطر مالكو السيارات تغيير مصفاة الوقود كل 20 يوم تقريبًا. يتعامل كل مالك سيارة مع محطة وقود واحدة أو اثنتين على الأكثر، بعد تجربة الوقود لفترة والتأكد من جودته وحفاظه على السيارة.
هناك فرق في أسعار المشتقات النفطية ما بين المناطق التي تديرها الحكومة السورية المؤقتة، والمناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة حكومة الإنقاذ، التي تُسعر المشتقات النفطية بسعر أعلى، علاوة على احتكار تلك المشتقات حتى وقت قريب من قبل شركة “وتد” والتي حلت نفسها بنهاية عام 2022، لتظهر على إثرها شركات جديدة تحتكر هذا القطاع مجدداً. أغلبها شركات تابعة لأشخاص محسوبين على “هتش”، نظراً لحيوية الملف وأرباحه الأكيدة.
الحديث عن أسعار الكهرباء وزيادتها تردد كثيرًا خلال الزيارة أيضًا، حيث تسببت الحرب والاستهداف المتكرر من طيران النظام الحربي وحليفه الروسي في تدمير البنية التحتية الخاصة بشبكة الكهرباء، كما أدت سرقة الكابلات الكهربائية دوراً إضافياً في تدمير القدرة على استخدام شبكات الكهرباء في عدد كبير من المناطق في الشمال السوري، وهو ما دفع الأهالي للبحث عن البدائل للحصول على الكهرباء.
نظام “الأمبيرات”، جاء في مقدمة البدائل، وهو اشتراك لدى موزع محلي يقوم بتوليد الكهرباء عبر مولدات ضخمة ليغذي بها مجموعة من المنازل والفعاليات التجارية، وتبعه نظام “الليدات”، وألواح الطاقة الشمسية، لتوليد الطاقة الكهربائية، ثم تخزينها في مدخرات “بطاريات”، قبل العودة لاستخدامها عبر جهاز “رافع الجهد”، وهو الجهاز الذي يتولى رفع الفولت من 24 إلى 220، ليصل للنظام المعتمد لتشغيل الأجهزة الكهربائية، حتى تم التعاقد مع شركات خاصة تقوم باستجرار الكهرباء من تركيا أو توليدها محلياً. وعلى الرغم من أن الربط مع الشبكة التركية ساهم في عملية التنمية وفي مشاريع التعافي المبكر، إلا أن تحديد أسعار الكهرباء خلقت في بعض الأحيان إشكاليات بين السكان والسلطات والشركات المقدمة للخدمة.
الطرقات المنكوبة، التي تجمع أسر لا تملك سوى خيام تحميهم من البرد، وتحيط بهم ركام بنى سقطت، لم تكن أكثر المشاهد المظلمة التي واجهتها، بل جاء معها مشهد ينذر بسنوات قادمة مليئة بالهدم والدمار. فبعد أن تحول النظام السوري لأحد أكبر مصنعي ومهربي المخدرات حول العالم، كان لا بدّ أن تتأثر المنطقة بموجات من هذه الآفة.
هناك تخوف أساسي من مادة “الإتش بوز” أو “الكريستال ميث” المخدرة، والتي توصف بأنها قاتل بشع، يتمتع متعاطيه بعدوانية شديدة تؤدي في بعض الأحيان إلى ارتكاب جرائم تتسم بالعنف الشديد. ووفق إحصائية من المركز السوري لمحاربة المخدرات، فإن 30% من السكان بين 16 و30 عاماً يتعاطون المواد المخدرة بما فيهم طلبة المدارس، كما أن استخدام مادة “الإتش بوز” يؤدي في معظم الحالات للوقوع في الإدمان سريعًا لما لها من تأثير كبير على الجسد.
تحاول مختلف الجهات الرسمية وغير الرسمية في المنطقة التصدي لتلك الظاهرة من خلال حملات توعية أو مكافحة الاتجار والتوزيع والانتاج. ولأن الجزء الأكبر من المخدرات يأتي من مناطق النظام السوري عبر معابر التهريب، تُتهم بعض الفصائل العسكرية بالمشاركة في عمليات التهريب وتسهيل دخولها مقابل مبالغ مادية كبيرة.
تكللت بعض الجهود أخيرًا بالنجاح في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وجاء افتتاح أول “مصح مركزي” لعلاج الإدمان بمشاركة من الهلال الأخضر السوري والحكومة المؤقتة لمساعدة ما يقرب من 30 مريضاً شهرياً على التخلص من الإدمان، وإعادة دمجهم في المجتمع بشكل فعال.
تأثر قطاع الاتصالات بدا واضحاً خلال الزيارة، التي قضيت جزء لا يستهان منها في البحث عن طرق بديلة لإجراء المقابلات. في إحدى المرات حددت موعداً مع أحد الأشخاص، اتفقنا على الزمان والمكان، ولكننا لم نستطع الاتصال ببعضنا البعض في اليوم المحدد للقاء، لابتعادنا عن الحدود، وهي النقطة التي تكون بها التغطية الخلوية جيدة وتقل كلما ابتعدنا عنها حتى تختفي تماماً.
البحث عن البدائل لمواجهة انقطاع الخدمة المستمر كان الأولوية لتأمين الاتصالات المتعلقة بالأمور العسكرية، فكان يتم الاعتماد على الإنترنت الفضائي، وهي أجهزة تقدم خدماتها عبر شركات أجنبية خاصة بعيداً عن رقابة النظام، والذي توقف عن تقديم الخدمات في المناطق الخارجة عن سيطرته، لاحقاً مع الوقت انتشرت مقاهي إنترنت في المدن والبلدات.
لاحقاً في عام 2013 بدأ وصول الانترنت التركي إلى مناطق الشمال، ويتم الاعتماد عليه الآن بشكل كامل حيث يصل عبر الكابلات الضوئية عالية الاعتمادية. وتبلغ قيمة الاشتراك الشهري حالياً حوالي 5 دولارات، وهو مبلغ قد يبدو زهيداً، إلا أنه يشكل عبئاً على بعض الأسر الفقيرة.
وبالرغم من حل مشكلة الانترنت إلا أن قطاع الاتصالات الخلوية غير مستقر حتى الآن، ويتم الاعتماد بشكل جزئي على شبكات الاتصال الخلوية التركية. كما أن أسعار الخدمة الخلوية التركية بجانب إلى أنها مُكلفة بالنسبة للأهالي فهي أيضاً لا تغطي كافة المناطق.
لاحقاً في نهاية عام 2023، تم إطلاق شركة “سوريا فون“، بإشراف مباشر من قبل حكومة الإنقاذ، لتغطي مناطق سيطرتها فقط، حيث تتراوح أسعارها ما بين 3 إلى 12 دولار شهرياً مع سعر أولي للشريحة يبلغ 15 دولاراً.
عام مضى على الكارثة التي أودت بحياة مايزيد عن 50 ألف شخص، وأصابت وشردت مئات الآلاف، بالإضافة لتدمير المباني والبنى التحتية، ولم تترك لأهالي الشمال السوري سوى الأمل كخيار أخير للتشبث بالحياة ومواجهة الأزمات.
وبعد عام يمكن القول إن ما يتم إنجازه في المنطقة قليل جداً مقارنة بالاحتياجات حيث لا تزال مشاريع التعافي المبكر في مهدها. ولكن بالرغم من ذلك هناك جهود مبشرة مثل ترميم مئات المدارس والمنازل لضمان استمرار الحياة ببعض المناطق.
على الفاعلين الدوليين الالتفات لتلك الجهود، وبالأخص الولايات المتحدة التي تخصص أموالاً لدعم الاستقرار في سوريا تذهب كلها لدعم شمال شرق سوريا وليس غربها، التي يتم وسمها بالسواد لوقوعها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، فتكلفة دعم الاستقرار أقل بكثير من تكلفة التخلي عن دعمه.
المشاهدات عن قرب، أوضحت أن لدى أغلب السوريين في الشمال هاجس أساسي: التخلي الدولي عنهم بخطوات شبيهة لخطوات التخلي العربي عبر التطبيع مع نظام الأسد، ويعول الكثير منهم على الموقف الغربي الرافض للتطبيع والذي يبدو أنه أثمر بتمرير “قانون مناهضة التطبيع“، ويمنون النفس بأن تتواصل الجهود لمحاسبة الأسد على الجرائم التي تم ارتكابها بحقهم.
محسن المصطفى هو زميل غير مقيم سابق في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط (TIMEP) مهتم بشؤون الأمن والجيش والحكم في سورية. وهو حالياً باحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية.